فيصل أكرم
تتأخر الأشياءُ الجميلة، كلما رأيناها جميلة، حتى تفقد جمالها.. ثم تأتي شبيهةً بغيرها.. هل أتى غيرُها إلا بعد أن فقد جماله؟ نعتاد هذا إلا في حالات نادرة.
قلتُ مرةً:
(ليس في خطواتنا
إلاّ انتظارْ
في الليل ننتظرُ النهارْ
في الحيرة العمياء ننتظرُ اليدَ العليا
تناولنا القرارْ
وفي القطار، إذا ركبنا
لا نريدُ من المحطاتِ الكثيرةِ
غيرَ نافذةٍ يجلّلها الستارْ).
ونتأخر نحن، كعادة الطرقات التي تتسلى بتأخرنا، ونهمّش الوقتَ الذي ضاع.. هل قلنا ضاع؟ خاطئة هذه الكلمات، أفعالاً كانت أو صفات. فالضائع يكمن في مكان لا نراه، أو هو يتحرك بعيداً.. أما أوقاتنا فهي الأنفاس. هل تضيع أنفاسٌ خرجت من صدورنا لتحيط بنا؟
(يمحونا اللونْ
كما تمحو الطرقاتُ الضيقةُ براحَ الكونْ
ترتفعُ رؤوسٌ.. دونَ رقابْ
الشارعُ.. يدخلُ في الأبوابْ
والناسُ عن الضائع ضاعوا؛
الناسُ لمن لُقيَ يلقَّونْ).
وحين نريد أن نفرح، ككل الكائنات التي من حقها أن تفرح، نستغرقُ في ذكرى تعبر بنا وتعبّر عن حالاتنا.. أشياء سمعناها، ولم نطع.. أشياء قلناها ولم تنطبع في ذاكرة أحد غيرنا. هل كنا نقول لبعضنا، أم كان بعضنا يقول لنا:
(نقدِّرُ كلَّ كتابٍ قرأنا
نقدِّرُ كلَّ سوادٍ ملأنا
فمن سوف يقدرُ أن يستفزَّ البياضَ
ويتركَ أوراقه للشجرْ؟
من سوف يضربُ ميعاده للحبيبْ
رسوماً على كلِّ غيمٍ قريبْ
ثم ينساهُ منشغلاً بالمطرْ؟
نقدِّرُ هذا الخطرْ).!
ولا أحد على استعداد الآن لاستبدال الذاكرة بأخرى، ولا مجال لخيال. صرنا نتذكّر كيف سنعيش غداً، ولا نتخيّل كيف عشنا أمساً. طارت عصافير كثيرة ولم تزل أعشاشها ممتلئة ببقاياها. وعادت عصافير كثيرة ولم تجد لعودتها إلا الطيران مجدداً. حتى إن اختلف الهواء. فما تزال السماء بعيدة جداً؛ والأرض تقترب.. منا وفينا وعلينا وبنا.. الأرض تقترب أكثر. حتى إذا كنا على مسافات مؤقتة منها، فلسنا على اختلاف مع مناطق الطيور.. حين يهاجر بعضها، وبعضها عائد.
(تقولُ: لماذا القصائدْ..؟
لماذا تحجَّر دمعكَ في العين جمراً،
وجفنكَ باردْ..؟
وأنتَ تفتُّ الحياةَ لطيرٍ،
ومن أجل من طارَ عنكَ تكابدْ)!