رمضان جريدي العنزي
لليمن الأرض والتاريخ أنوثة خصبة، يحاول اختطافها ثلة غامضة، يشبهون الرجال، ولا رجال. اليمن الآن مصبوغ بطعنات العقوق، وعاقه يمسك قنبلة ليرمي بها على الأرض هناك؛ كي يكسر بلورة السحر، وليفرض سلطانه على المراعي والرعية والشمس والقمر والرابية.
عاقه الأول يحاول أن يكسر بوصلة الجغرافيا، ويخالف ناموس الاتجاهات؛ لينام على تخوم الخراب والسماد والفساد، لكنه الشعب اليمني الأبي ومعجزته الباسلة يأبى إلا أن تكون أرضه مشحونة بالمغايرة والتميز.. مترعة هي الأرض اليمنية بالماء والسهول الخضراء وحقول التفاح والرمان والهندباء، يرومها الفلاحون، يبكرون مع الغبش ليمنحهم العمل حياة جديدة وعشبة وخبزاً وماء، لكنه عاقه صاحب الغباء الكبير وربيب الدجل والأساطير الخرافية وحارق المدن، كلما تقادمت به الأيام تصلبت شرايينه، وبدا عليه الوهن نتيجة النهم الكثيف.. لم يعد يبحث عن عشبة ندية، وحبة قمح، وازدهار ونماء، لم يعد قادراً على البقاء والإنتاج والعطاء، لقد جهم وجهه اليمن، وصبغه بالأحمر القاني، وملأه بالارتخاء والنعاس والفتنة والكسل.. لقد أحال كل شيء إلى عتق يشبه الجحيم، حتى المجرات والشمس والغيمة ولوحة المساء، لقد خذل المدن اليمنية كلها، وأوهن جسدها، واستسلم لطغيانه الكبير تحت وابل الرصاص المنهمر على رؤوس الضحايا والبيوت والمقابر التي ضاقت بالموتى. اللص العاق امتهن القتل والتدمير والإزالة، لديه احتقان، وليس لديه فرح ولا مواسم أمل، ولا يراهن على الحياة الجديدة.. الناس هناك ينامون بلا وسائد، والجوع غدا يشبه الكلام البليغ، هو الجلاد وزبانيته جردوا السيوف من أغمادها، وسلطوها فوق رقاب العذارى والشيوخ واليتامى، جنوده ليسوا على ثغور القلاع، بل هم على أبواب البيوت الشريفة، يختلسون النظر، يسرقون العطر والبن اليمني والقرنفل، ملؤوا خزائنهم من غنائم النهب.. هم الأفاعي تنساب نحو جحورها وقد ملأت البطون، هم الحرباوات تلحس ما تجمع فوق الحصاة، هم اللصوص أحرقوا أعواد القصب وأشجار التفاح، وعرضوا اليمن لخراب الخراب.. هم لا يعقلون، ولا يتخيلون، ولا يعطون فرصة للاستماع، وينفخون في الصور ليوقظوا الوهم من سباته الطويل، فلا بعد عندهم، ولا فوق رؤوسهم تاج الملوك، إنهم ببساطة حكاؤون، نصبوا خيامهم في غابات الرمل الهزيل، لكن الريح لن تسترهم من شواظ الشمس، وسيهزمون، وسيوقظهم الحق، وينأى بهم نحو المجاهل البعيدة، عندها سيصبحون مثل جمل بليد تاه في الصحراء ومات.