د. خالد محمد باطرفي
أحيانا يكون من الصعب اختيار موضوع لمقال لأن القضايا والأحداث كثيرة، ساخنة وعلى نفس القدر من الأهمية.
كنت أستجمع أفكاري حول «الهدنة الإنسانية» للأمم المتحدة في اليمن، عندما اشتعلت الشاشات بخبر عاجل حزين : «عميد شؤون الخارجية في العالم، الأمير سعود الفيصل الى رحمة الله، يوم الخميس، 19 يوليو 2015 أثناء وجوده في زيارة للولايات المتحدة الأمريكية.
كان الخبر صدمة محزنة لمن أحب وأعجب بالأمير وما قدمه لبلده على مدى عقود من موقعه كوزير للخارجية ولخبرته الطويلة والعميقة وكفاءته المهنية التي جعلته مرجعا عالميا للسياسيين والأكاديميين والصحفيين ومراقبي السياسة الخارجية.
«نحن في حاجة إليه!» سمعت هذه العبارة من سعودي وعراقي شعرا بفداحة الخسارة. أتفقت معهما، فعالمنا يتغير بسرعة من حولنا، وليس دائما للأفضل. الحرائق تحتاج لرجال أطفاء، والمشاكل تحتاج لأصحاب الحلول، والقضايا المعقدة تحتاج إلى محللين. وكان سعود الفيصل كل ذلك وأكثر. فعلى مدى أربعين عاما كان ابن الفيصل في غرفة القيادة لمنظمة التعاون الإسلامي، وجامعة الدول العربية ومجلس التعاون الخليجي، والقوة الأقليمية، المملكة العربية السعودية.
خدم خمسة ملوك، بدءا من والده الملك فيصل بن عبد العزيز، كوزير دولة للشؤون الخارجية في عام 1975، خلفا للسيد عمر السقاف، ثم وزيرا للخارجية تحت قيادة الملك خالد بن عبد العزيز (1975-1982) وأخوانه: الملك فهد، 1982-2005 ، والملك عبد الله، 2005-2015، والملك سلمان 2015. وفي مارس من هذا العام، طلب الأمير سعود إعفاءه لظروفه الصحية، فأعفي من الوزارة وعين مشرفا على الشئون الخارجية ومستشار ومبعوثا خاصا للملك. (مقالتي: «سعود الفيصل: عميد وزراء الخارجية في العالم لم يترجل بعد!» الجزيرة، الجمعة 08 مايو 2015)
قال أبو الطيب المتنبي (وإذا كانت النفوسُ كباراً .. تَعِبَت في مُرادِها الأجسامُ)، وجسد الفيصل دفع ثمنا باهظ لعظمة سيده. حمل ظهره الكثير من المهام الثقيلة، لم يستطع الطب أن يعينه عليها. فجراحة تلو الآخر على عنقه وعموده الفقري لم تشف آلامه وتحل مشكلته.
كان الفيصل في ألم مستمر لعشرين عاما على الأقل. يجلس أحيانا في مؤتمر، فيداهمه الوجع، ويتصلب ظهره، ويؤلمه عنقه، فلا يُشعر أحداً بما ألمَّ به ويواصل مفاوضاته وكأن شيئا لم يكن. ولكن المشكلة الحقيقية تبدأ بعد نهاية الاجتماع، عندما يخرج الجميع ويبقى هو أسير مقعده، فيواصل العمل والمعاناة حتى يخف الوجع ويتمكن من الوقوف والسير على قدميه، أو يُحمل إلى بيته.
تحت هذا الضغط والمعاناة، قد يتوقع المرء منه الاستسلام ويعذره على التسليم. وعلى الأقل أن يخفض ساعات عمله، ويخفف من مشاركاته الدولية، ويحيل الملفات الشائكة إلى غيره. لكن ابن الفيصل لم يكن ليقبل بشيء من ذلك، وكان برنامجه اليومي مزدحما، ومواعيده دقيقة، ومشاركاته في المؤتمرات وخلايا الأزمات ولجان العمل والاجتماعات الدورية بالزخم الذي كانت عليه، رغم عواصف الألم التي يتعرض لها (ويتحداها).
بعد استقالته، كوزير للخارجية، في مطلع عام 2015، لأسباب صحية، كان المطلوب منه الالتزام ببرنامج النقاهة الذي أصر عليه الأطباء، ولكن الجندي الذي يقاتل حتى آخر قطرة من دمه، وآخر نفس في صدره، لم يكن على استعداد لذلك، فقد واصل الاطلاع باللغات السبع التي يجيدها، والبحث والتواصل الدولي وتقديم المشورة لقيادته. نعم كان في ذلك حركة أقل، ولكن مع مزيد من التفكير والتركيز. لم يقبل سعودنا أن يرتاح وقيادته لم تسترح، وأن يتمتع بالهدوء والسلام ومنطقته على صفيح ساخن، وأن ينام بعمق، وبلاده مستيقظة وواعية للمخاطر والأعداء من حولها.
ابن الفيصل لم يسترح حتى أراحه الله، وبقي مثل والده العظيم وكبار أسرته، يخدم أمته حتى اختاره المولى وهو على رأس عمله. وكالفارس النبيل غادرنا على صهوة جواده. وكحال المؤمنين، لم يشتك من معاناته حتى اشتكت منه المعاناة.
كان أسفه الوحيد في مسيرته الطويلة أن أمته لم تحرر القدس، وصرح مرة «أن القادة العرب خذلوا في شأن فلسطين شعوبهم»، ولعل قلبه كان مليئا بالحسرة وهو يغادر المشهد دون تحقيق رغبة شهيد القدس فيصل، بالصلاة بالمسجد الأقصى، في فلسطين المحررة.
وصف ذات مرة حال الأمة العربية بأنه يشبه حالته الصحية. ولكن إذا كان هذا ماكان عليه جسده، فلم يكن قط كروحه التي بقيت جليلة وسامية ومعطاءة، كحال الأمة الإسلامية في أزهى عصورها.
وداعا وسلاما عليك يا سعود بن فيصل بن عبدالعزيز. لقد عشت ومت كما عاش جدك ووالدك وقادة بلادك في خدمة الإسلام والمسلمين، تنافح حتى آخر لحظة عن قضايا الأمة وتذوذ عن حمى مهبط الرسالة، بلاد الحرمين. سنذكر هذا لك .. وندعو لك في كل حين.