د. خالد محمد باطرفي
عدت من بيروت، بعد أيام قضيتها متنقلا بين المحطات الفضائية للتعليق على القضية اليمنية، والتدخلات الإيرانية، ومواقف حزب الله المخزية في العبودية لإيران على حساب مصالح بلده وأمته.
على أن العجيب في الأمر أن مناظراتي التلفزيونية والمناقشات الحادة مع زملاء المهنة وممثلي مختلف التيارات السياسية، لم تفسد للود قضية. فبعد كل جلسة حوارية، ينتهي الأمر بوداع حميم.
ولعل المساحة الجغرافية الضيقة للبنان، والواسعة لديمقراطيته، وقد جمعت أديانا وطوائف وتيارات مختلفة حتمت هذا التسامح والانفتاح على الآخر، وهذه الحضارية في التعامل مع الرأي المختلف.
دعاني صديقي الشيعي لزيارة منزله في الضاحية الجنوبية، فلبيت على تردد، فضحك وهو يؤكد لي أن «الدار أمان»، فهو من معارضي الحزب وسوريا وإيران، ويجاوره في السكن من يناصرهم، ومع ذلك فالاختلاف لم يوصلهم إلى الخلاف. وبالفعل، فقد كان ذلك كذلك.
تذكرت الموقف نفسه في زيارات سبقت لليمن، شماله وجنوبه، عندما وجدت نفسي طرفا في حوارات ومناقشات حامية الوطيس بين أنصار وأتباع المذاهب والأحزاب المختلفة، ولكنها كانت مجرد رياضة فكرية وممارسة حضارية لتداول الرأي في سلم واحترام. ففي تريم، معقل العلم والتعليم، وعاصمة الثقافة الإسلامية عام 2010، كانت المدارس الفقهية كلها ممثلة في فصولها الدراسية، وجوامعها، ومكتباتها ومنتدياتها. كما شهدت الحوار الحضاري نفسه في جامعات المكلا وعدن وصنعاء، وفي دواوينها ومجالسها. وأحسب أنني تعلمت منهم الكثير، ولكن أهم ما تعلمت هو سعة الصدر وحسن الظن وتقدير الرأي المختلف.
هكذا كان الحال قبل أن يقتحم المشهد طرفان متناقضان متشابهان، هما القاعدة وإيران. فكلا الطرفين يؤمنان بأحادية الرأي، ووحدة الفكر، وإقصاء الآخر. وكلاهما يدينان بالولاء والطاعة لبيعة خارج الحدود، وكل منهما يسعى لفرض فكره ورؤيته وتحقيق السيطرة والوصول إلى السلطة، بالعنف والقوة، وبدون احترام لحق الآخرين في الاختيار والاختلاف.
وبالدعم الذي حصل عليه الطرفان من مصادر خارجية وداخلية، وبالتحالفات القبلية والمذهبية والمجتمعية التي حققاها، استطاعا التمدد أبعد وأكثر من تمثيلهما الحقيقي على الأرض. وخلال سنوات قليلة، انقلب المشهد الحضاري، وتحول الحوار إلى صراع بالحديد والنار، والاحترام إلى احتقار، والمحبة إلى كراهية، والترابط الاجتماعي إلى تفكك ونزاع.
لم يكن هذا كله ببعيد عن وعي السلطة السياسية، بل إنها كانت مشاركة في تحقيقه. فسياسة فرق تسد التي مارسها الرئيس المخلوع علي عبدالله صالح، قادته إلى تشجيع قيام جماعات متشددة، متحاربة. فبعد الحوثيين والسلفيين والإصلاحيين، أخرج أعضاء القاعدة من سجن صنعاء، في تمثيلية هروب «هندية»، وزودهم بالعتاد، وغض الطرف عن أنشطتهم وتمددهم، ليشكلوا قوة تواجه القوى الأخرى. وعندما تشتعل الحروب بينهم، ينتظر حتى يتغلب أحدهما على الآخر، فيساعد المهزوم، ويحارب المنتصر حتى يكسره، ويستعين بدول الجوار والدول الكبرى، بدعوى محاربة الإرهاب.
ويروي دبلوماسيون أمريكيون التقيتهم مؤخرا كيف أن المخلوع كان يزودهم بإحداثيات مواقع القاعدة وقياداتها بدقة، وبعد أن يتم ضربهم بالطائرات بدون طيار، يسارع في الخفاء إلى تعويضهم بالسلاح والمال، حتى يستعيدوا قوتهم من جديد.
هذه السياسة، التي كان يسميها المخلوع، «الرقص على رؤوس الثعابين»، مكنته من حكم بلد قبلي شرس، يقف على مخزن بارود يحتوي على سبعين مليون قطعة سلاح، تبدأ بالجنبية التقليدية، التي يرتديها الطفل في عمر الخامسة، وتنتهي بالصواريخ. وأن يحتل الشطر الجنوبي غصبا واغتصابا، وأن يصفي كل القيادات السياسية والعسكرية التي تناوئه، أو تخالفه، أو يتوجس منها ذلك حاضرا أو مستقبلا.
على أن الدمار الحقيقي، في تقديري، هو في إفساد حضارية الحوار بين مكونات الشعب اليمني، ونشر ثقافة الكراهية والإقصاء، وتفتيت البلاد إلى معسكرات وخنادق دينية، وعنصرية، وسياسية. ولو قدر لهذا الأمر أن يستمر، وأن يلوثه الثأر الدموي، فإن مستقبل الوحدة اليمنية مهدد بخطر الانقسام والتشتت.
تجربة لبنان على ما شابها من تحزب طائفي ومذهبي، تؤلبه وتشعله إيران، تبقى أنموذجا يحتذى للتسامح الديني والفكري والعنصري، فمهما شطّت القيادات والأحزاب تبقى القاعدة الشعبية قادرة على التعايش مع الاختلاف وحصره في حدود النقاش المفتوح، الذي لا يتطور إلى عنف أو نزاع مسلح. ونرجو أن يبقى كذلك.
نأمل أن يستلهم اليمنيون هذا الأنموذج في حوارهم السياسي، في عاصمة الوفاق العربي، وبيت العرب، الرياض، وأن يتطارحوا الرأي والمواقف السياسية بالروح التي تميزت بها حواراتهم الفكرية قبل التدخل الإيراني والقاعدي، وأن يبنوا على ما سبق التوصل إليه في الحوار الوطني من مخرجات توافقية عملية كانت على وشك التحول إلى واقع لولا الضربات الاستباقية لعملاء إيران في اليمن، واستيلائهم على السلطة بقوة السلاح، لا المنطق والفكر. (اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون).