د. خالد محمد الصغِّير
التحولات والتغيرات الاجتماعية لا تحدث بين ليلة وضحاها. هذا على الأقل ما يبشر به علماء الاجتماع، ولكن أجدادنا العرب علمونا أن لكل قاعدة شواذ. وشاذ هذه القاعدة الاجتماعية المجتمع السعودي أو بالأحرى التحولات الاجتماعية السريعة التي شهدتها ساحة المجتمع السعودي والتي لا تتناغم مع السنن الاجتماعية المتعارف عليها...
وذلك يعود إلى أن التحول السريع من المجتمع البدوي إلى الحضري قد تم في فترة وجيزة بحساب أعمال الأمم مما أوجد حالة اجتماعية سعودية خاصة أو لنقل أنماطا سلوكية خاصة بالمجتمع السعودي.
وتشير التقديرات إلى أنه قبل ما يقارب الستين عاماً كان نصف المجتمع السعودي يعيش حياة بدوية حيث يقطن ساكنوها الخيام، ويرعون ماشيتهم وإبلهم، ويعيشون تحت وطأة الفقر والجهل، وذات التقديرات تشير إلى أن من يعيشون في البادية الآن يقلون عن 10% وهي نسبة تتناقص بشكل سريع، إذ إن الكثير ممن كانوا إلى وقت قريب يقطنون البادية تركوا خيامهم الصحراوية ليهنؤوا بحياة يسودها الرخاء والرفاهية داخل مدن عصرية حضرية. وتزامن مع هذا التحول الحضري طفرة تعليمية، ونمو سكاني ملحوظ، وانفتاح على العالم بقدر جعل شعب المملكة يأتي على رأس الدول العربية في استخدام وسائل الاتصال الحديثة، وأكثرهم ترحالاً في شتى أصقاع العالم، وأكثر شعوب المنطقة مشاهدة لوسائل الإعلام المرئية بنسبة فاقت حتى من هم خارج حدود الوطن العربي الكبير، إذ يبلغ الوقت الذي يمضيه المواطن السعودي في مشاهدة التلفاز أكثر بـ 50% من الوقت الذي يمضيه الأمريكي أو الأوروبي، وبلغ عدد المحطات الفضائية 1294 قناة، تتولى بثها نحو 758 هيئة عربية منها 29 هيئة عامة و 729 خاصة، ويوجد جهاز تلفاز لكل ثلاثة أشخاص في المملكة، وقد بلغ عدد مستخدمي الإنترنت ما يقارب الـ 18 ملايين مستخدم بنهاية 2014م، ويقترب عدد مستخدمي التوتر من عشرة ميلايين مستخدم.
وشهدت أرض المملكة إضافة إلى ذلك تطوراً وحركة مالية تفوق مثيلاتها العربية، وبجانب ذلك شهدت الساحة السعودية تحولات، وإصلاحات، وبروز مؤسسات مدنية تمثلت في انبثاق مركز للحوار الوطني، وإنشاء الهيئة الوطنية لحقوق الإنسان، وغيرها من الهيئات والمؤسسات المدنية والجمعيات، ومؤشرات أو انفراجات ديمقراطية ترجمت بالانتخابات البلدية، وانتخابات الغرف التجارية، وانتخابات الجمعية الصحفية، وبروز تيار إصلاحي داخلي يطال كل مناحي الحياة، وترحيب بالاستثمارات الأجنبية، وتكريس نظام الخصخصة لبعض المشاريع الحكومية وتمليك العقار لغير السعوديين، والانضمام إلى الأسواق العالمية الكبرى، وغير ذلك من المؤشرات والتوجهات.
وهذا التحول السريع من مجتمع تقليدي بسيط إلى مجتمع مدني متحضر منفتح على الثقافات العالمية، ومحاولاً الاستفادة من معطيات التقدم العلمي والتقني في كافة المجالات الحياتية تمخض ولا شك في إعادة صياغة النسيج الاجتماعي السعودي، وقاد في الوقت نفسه إلى نشوء ممارسات أو قيم اجتماعية إيجابية وسلبية ينفرد بها المجتمع السعودي دون غيره من المجتمعات الأخرى وسنحاول في هذه المقالة أن نعرج على بعض من أبرز الممارسات الاجتماعية الخاطئة في محاولة لتصحيح مسار تلك الأنماط السلوكية السعودية السلبية من خلال إبرازها، وتسليط الضوء عليها، وبيان خطئها، ومحاولة النأي بشخصية المجتمع السعودي برمته من براثن قيم وممارسات اجتماعية سلبية.
ويأتي على رأس تلك الممارسات الاجتماعية الشعور الطاغي لدى العديد من أفراد المجتمع السعودي بالشكوى والتذمر. فأنى اتجهت ببصرك يمنة أو يسرة سواء كان ذلك في المؤسسات التعليمية أو الحكومية أو في مؤسسات القطاع الخاص، وحتى أثناء اللقاءات الاجتماعية العائلية والأسرية فستجد أن الصوت الطاغي على كل الأصوات ألا شيء يسير بشكل جيد في هذا البلد. ويمكنك اختبار مصداقية هذا الحكم من عدمه من خلال القيام بطرح أي موضوع ذي مساس بمختلف نواحي حياتنا وحينها ستجد رداً مباشراً مغلفاً بعبارات توحي بعدم الرضا بما الأمور عليه سائرة. وهذه الممارسة الاجتماعية السائدة على نطاق واسع وقفت حائلاً دون محاولتنا الجادة للعمل على تحسين الوضع القائم نظراً لشعورنا المغلف بقدر عال من التذمر.
والممارسة الاجتماعية الأخرى تبدو من خلال سعي الكثيرين إلى إلقاء اللوم على الآخرين بدلاً من الاعتراف بالخطأ، وهي ظاهرة اجتماعية مستشرية على نطاق واسع بين أطياف المجتمع وطبقاته المختلفة. وقد بلغ مدى تغلغل هذه الظاهرة حداً جعل المرء يلمس ندرة في أن يجد من يتحلى بالشجاعة الأدبية ويعلن تحمله المسؤولية عما جرى وينسب الخطأ لنفسه، بل إن الكثير منا يستخدم هذه الإستراتيجية أو بالأحرى (ميكانيكية الدفاع عن النفس) في محاولة مستميتة لتبرير أخطائه وهفواته بتحميل الآخرين مسؤوليتها.
وبينما نجد شعوب الأمم الأخرى تعطي قدراً لأهمية الوقت نجد الكثير منا ينظر له بنظرة أقل ما يمكن أن توصف به بأنها نظرة غير مستشعرة لقدره وأهميته، ويتساوى في ذلك الكثير منا صغاراً وكباراً، عامة ومسؤولين. والترجمة السلوكية لذلك تظهر من خلال بعض الممارسات مثل: المواعيد ليست نهائية، بل هي قابلة للتقديم والتأخير، والزيارات المتعددة والمفاجئة للأصدقاء والأقارب ليست مضيعة للوقت ولكنها على العكس من ذلك استغلال حميد له، والويل لمن تقع العين عليه محدقاً النظر في ساعته أثناء مناسبة اجتماعية، وعدم الالتزام بموعد محدد مسبقاً، أو القدوم له متأخراً أمر غير جيد، ولكنه لا يرقى بحال إلى مستوى يصنف فيه على أنه تصرف مشين يخجل المرء منه. ولذا اعتدنا في مثل هذه المواقف سماع عبارة: (خير يا طير، الدنيا ما هي طايره).
وإلى جانب ذلك نجد الكثير منا يعشق إصدار الأحكام العامة الشاملة من دون الالتزام بالدقة والحذر من الانسياق وراء الاندفاع بإصدار أحكام عامة جامعة تطال كل من له مساس من قريب أو بعيد بالموضوع المثار، إذ نلجأ إلى إصدار حكم مانع جامع لا يقبل القسمة على اثنين. ومن هنا فكثيراً ما نستخدم في حواراتنا ومناقشاتنا عبارة (كلهم يؤمنون بهذا الشيء) أو (كل الناس هناك تمارس كذا وكذا).
وهناك أيضاً غياب عنصر الجدية عند تعاطينا مع الأمور، ففي المجال الأكاديمي على سبيل المثال عندما يكلف الأستاذ طلابه بواجب أو بحث يقوم الطلاب بأدائه لمجرد أنه واجب عليهم أداؤه بدون إبداء أي قدر من الجدية والاهتمام به. وهذا بلا شك يؤثر سلباً على نوعية الناتج النهائي للعمل المطلوب إنجازه. وهذا يسري أيضاً على جميع نواحي الحياة لدينا والذي نختزله دوماً بعبارات مثل: (يا رجال لا تشغل نفسك ما عندك أحد) أو (والله ما درى عنك أحد).
ومما يثير الانتباه أيضاً اتصاف العديد منا بالتبعية وعدم الاستقلالية وقد أدى الاتصاف بالتبعية الفكرية غير المستقلة الكثير منا إلى تقليد أو اتباع الآخرين من غير إدراك لما هم مقدمون عليه لأن همهم الأكبر ينصب على عدم الانشقاق عن ركب التيار السائد في المجتمع.
شعب اللحظة الأخيرة أدق عبارة يمكن استخدامها لوصف ممارسة اجتماعية عامة يلجأ فيها الكثير منا دوماً لتأجيل ما هو واجب عليهم عمله إلى آخر لحظة بدون العمل على الاستفادة والعمل على استغلال الوقت المتاح والمحدد مسبقا لإتمام العمل بقدر عال من الإتقان والدقة، بل على العكس من ذلك يلجأ الكثير منا إلى الانتظار والتسويف حتى تأتي اللحظة الحاسمة ومن ثم نبادر بالإسراع لعمل المطلوب بأداء مرتبك كثيرة أخطاؤه ومثالبه نتيجة السرعة.
ومما يمكن إضافته إلى ذلك أيضاً طريقتنا السلبية عند التعاطي مع الآراء التي لا تنسجم مع آرائنا وتوجهاتنا، فنحن بدلاً من الاستماع لقائل ذلك الرأي ومحاولة النظر في صوابه من عدمه نلجأ للهجوم الشخصي والكيل لصاحب الرأي على حساب مناقشة الرأي المطروح. وتولد من رحم هذه الممارسة الاجتماعية الخاطئة بعض الممارسات التي منها أننا نتهم صاحب الرأي المضاد بالانحطاط الفكري، أو العمل بنية سيئة تنطوي على الإساءة لقيمنا ومبادئنا وهناك من يتجاوز إلى أبعد من ذلك ويتهم الطرف الآخر بالجهل، والتسطيح، أو التصدي للآراء المختلفة بعصي العادات والتقاليد والتي لا يتوافق بعضها مع مبادئ الدين الحنيف وتخالفه الفطرة الإنسانية.
صفة الاختلاف أو عدم التوافق بين القول والعمل، أو الاعتقاد والممارسة تمثل ممارسة اجتماعية سلبية بارزة في مجتمعنا السعودي فالكثير منا يعبر عن رأيه تجاه أمر ما، ولكن هذا التعبير المبني في معظم أحواله على قناعة يتناقض مع ما يمارسه صاحبه في الواقع المعاش. ومن هنا فنحن لا نطبق ميدانياً ما ندعو له ونبشر به نظرياً، وهذه الممارسة السلبية يمكن ملاحظتها في العديد من تصرفاتنا الاجتماعية، فنحن ظاهرياً نلتزم بتعاليم ديننا، وعاداتنا وتقاليدنا ولكننا نمارس على الأرض ما يتناقض تماماً مع تلك المبادئ والقيم التي نعلن أمام الملأ أننا معها قلباً وقالباً.
وهذه الممارسات الاجتماعية الخاطئة لا تعني بحال أننا مجتمع بدون خصال وممارسات إيجابية وأن هذا المخاض الاجتماعي قضى على القيم الإنسانية النبيلة التي يتمتع بها الفرد السعودي، بل إن المواطن السعودي بالرغم من ذلك لا يزال يعتز ويفخر بانتمائه إلى الصحراء واستمداده منها تقاليد بدوية عريقة تتمثل بالشهامة والكرم، وغيرها من الخصال الحميدة، ولا زال يحتفظ على الرغم من تعدد مشارب تلك التحولات الاجتماعية وسرعة وتيرتها برصيد ضخم من المثل والأخلاقيات السامية. وحتى نحافظ على هذا الرصيد الاجتماعي الإيجابي نحن بحاجة إلى تسليط الضوء على ممارسات اجتماعية خاطئة من أجل لفت الانتباه لها، والدعوة للعمل على تلافيها.