أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
رأيتُ بهذه الجريدة يوم الأحد الماضي في عَدَدِها رقم ( 15620 ) تاريخ 18/9/ 1436هـ ص 9 مقالةً لأخي (إبراهيم عبدالله العمار) وفَّقَنا الله وإياه بعنوان (آخِرُ ملكٍ يهوديٍّ في الْيَمَنِ) قال فيها: ((في الربع الأول من القرن السادس الميلادي ، وقَبْل [الأفصح بدون واو ؛ لأن (قَبْلَ ) قَيْدٌ ، ولا عَطْف بين القيدِ والْمُقَيَّد] ميلاد خير البشر صلى الله عليه وسلم بقرابة 50 سنة..
في جنوب الجزيرة العربية انطلق جيش من اليمن ؛ [و] قائد الجيش هو الملك اليهودي يوسف الذي عُرِف باسم (ذو نَوَّاس).. واتَّجه إلى نجران التي كان يقطنها النصارى.. زحف ذو (نَوَّاس) بجيشٍ يُرعِد ، وقلبٍ يحقد [أَيَصِحُّ هذا الوصفُ في حَقِّ نبيٍّ كريم ؟!] على النصارى [قال أبو عبدالرحمن: يوسف عليه السلام موجودٌ قبل أنْ يَخْلَقَ الله النصارى بآلاف الأعوام] ؛ ذلك أنه رأى دينهم ينتشر في جنوب الجزيرة ؛ وهو دين جديد على تلك المنطقة التي أكثرُها من الوثنيين ، وبعض اليهود [قال أبو عبدالرحمن: في عهد يوسف لم يخلق الله اليهودَ بعد]؛، وكان هناك صراع ضخم بين أقوى دولتين في ذلك الجزء من الكوكب [؟!] ؛ وهما دولة الفرس (الساسانيون) ، ودولة الروم (البيزنطيون)؛ وهما أعظم قطبين ، وبينهما صراعات طويلة.. وكانت الأمم المجاورة تتحالف: إمَّا مع الفرس أو [الصحيح: وإمَّا] الروم ؛ فأما الأمم النصرانية كالحبشة فتتحالف مع الروم.. والوثنيون غالباً اختاروا الجانب الفارسي المجوسي الذي كان يشاركهم الوثنية ، والتحالفات ليست دينية بالضرورة ؛ بل سياسية واقتصادية.. لكنَّ جانب الدين بالغُ الأهمية في تحديد الولاء.. و(ذو نَوَّاس) يهوديٌّ [قال أبو عبدالرحمن: بل هو قحطانيٌّ منهم الوثنيَّ ، ومنهم اليهوديُّ ، ومنهم النصرانيُّ.. وقال صلى الله عليه وسلم عن التبابعة: ( لا أدري أَتُبَّعٌ نَبِيٌّ أو رجلٌ صالح )] ، وملوك اليهود شيء نادر في التاريخ ، والخيار البديهي أنْ يتحالف مع النصارى، لكنه أبغضَهم ؛ ربما لأنه رأى النصرانية فيها تعدٍّ على اليهودية، وربما لأنه فَضَّل الفرس [؟!]؛ فكان يضطهد ويقتل النصارى ؛ ليثبت ولاءه إلى أنْ أتى ذلك اليوم الذي فعل فيه (ذو نَوَّاس) أشهرَ فعلاته ؛ فقد زحف بجيشه إلى نجران فحاصرهم ، ولم يقبل إلا الاستسلام ؛ فاستسلموا؛ فخيَّرهم بين اثنين: إما اعتناق اليهودية، وإما القتل ؛ فلما رفضوا التهوَّد أمرَ بقتلهم.. وبما أنهم ألوفٌ كان قتلهم بسرعة صعباً ؛ فحفر الجنود حَفْراً كبيراً (أخاديد) في الأرض ، وأشعلوا فيها النيرانَ ، وأخذوا يلقون فيها النصارى حتى أحرقوهم أحياء وهم قرابة 20 ألفاً [قال أبو عبدالرحمن: حافرو الإخدود كفَرة كما في سورة البروج ، والنصارى لم توجْدُ بَعْدُ] ، ووصلَ الخبر لملك الروم [قال أبو عبدالرحمن: الصحيحُ (إلى مَلِكِ ؛ لأنَّ الخبرَ لم يأت مِن أجْلِه ؛ إذْ أنَّ الخبرَ مَعْنَوِي لم يَصِلإليه مِن أجلِ الاستنجادِ به] ؛ فغضب بشدة، وأمر حليفَه النصرانيَّ ملكَ [قال أبو عبدالرحمن: اللامُ للتعليل ، وتقديرها: (مِنْ أجلِ الأَخْذِ بِثَأْرِ المُحْرِّقِيْن في الأُخْدُوْدِ ؛ ولم يأتوا لِمُناصرتِهم أو التفاوض معهم.. ومِنْ الأرجَحْ مَجِيْئُهم مِن أجلِ الأخْذِ بالثَّأرِ لا مِن أجْلِ مناصَرةِ الباقين ؛ لأن السياق على أنَّ النصارى اُسْتُئْصِلوا بالإحراق في الأخدود.. مع أنَّه مُسْتَبْعَدٌ في الواقع أنْ يُسْتَأْصلَ أهلُ دينٍ كانوا هم الأكثرية] الحبشةِ أنْ يقضي على (ذو نَوَّاس) ؛ فقطع ملك الحبشة البحر الأحمر إلى اليمن ، واتجه الجيش النصراني لجيش اليهود ؛ فهزمهم هزيمةً ساحقة كان فيها القضاء على آخرِ مملكة يهودية في اليمن.. مملكة حِمْـيَر (بكسر الحاء، وسكون الميم، وفتح الياء).. وأما (ذو نَوَّاس) فلم يَعرَف ما حصل له، وأشهرُ قصة تقول: إنه لما أيقن بالهزيمة فضَّلَ الموت على الأسر ؛ فأمرَ جواده أن يركض للبحر ؛ فغرق واختفى)).
قال أبو عبدالرحمن: أرجو مِن أخي حفظه اللهُ أَنْ يقبلَ ملاحظاتي ؛ فما أَرَدْتُ إلا حُبَّ الخيرِ لي وله وللقرَّاء ؛ وذلك مع إيماني بأنَّ الْعُلَماءَ وطُلَّاب العلم يَغْفِلُون ، ويُخْطِؤون ، وكلُّهم مأجورون إذا علِم الله من سَرِيْرَتَهُمْ أنهم صادقو النيَّة في ابتغاءِ الحقِّ لا غيرَ.. ولم أَنْقُلْ كلام أخي كاملاً ، وربما سَنَحتْ فُرْصَة لِمُناقشةِ بقية الكلام.. وإيضاحي ههنا مَبْنِيٌّ على الْوَقْفاتِ التالية:
الوقفة الأولى: كيف يأتي ملك الروم للأخْذِ بثأر النصارى و(أبو نَوَّاسٌ) عنده نصرانيٌّ ، أو مُوَالٍ لهم ؟!.
والوقفة الثانية: أنَّ يوسف عليه السلام لَمْ تَطَأْ رِجْلُه الكريمةُ أرضَ اليمنِ قط ، وليس هو ( ذو نَوَّاسٍ) - الضَّمُ على الحكاية -؛ وإنما هو من ملوك اليمن.
والوقْفةُ الثالثةُ: أنَّ يوسف عليه السلام ليسَ مَلِكاً يهودياً ؛ وإنما هو حَنِيفٌ مُسْلِمٌ على مِلَّةِ أبيه يعقوبَ بنِ إسحاقَ بنِ إبراهيمَ الخليلِ عليهم ، وعلى نَبِيِّنا محمد بن عبدالله الهاشِميَّ ( رسولِ الله إلى الثَّقَلِين كافة - ، ولو كان موسى عليه السلام حَياً ما وسعه إلا أنْ يَتَّبِعه - ، وعلى جميع إخوانهم من الأنبياء والمرسلين ، وعلى جميع مَنْ آمَن بهم من آلِـهِمْ ، وعلى جميعِ أصحابهم ، وعلى مَن اتَّبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين: أفضلُ الصلاةِ وأَتَمُّ التسليم ، واجعلنا معهم ومنِهم برحمتك يا أرحم الراحمين ، وسلامُ الله وبركاتُه على عباده الملائكةِ المُكرمين ).. والبيانُ لِما أوردتُه مَوْجودٌ في كلامِ أصدقِ القائلين في قوله سبحانه وتعالى: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [سورة البقرة/ 140]، وقولِه سبحانه وتعالى: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)} [سورة البقرة 130-133]، وقَوْلِه سبحانه وتعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّمِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)} [سورة آل عمران/ 64-68]؛ ولهذا ، ولآيةٍ أُخْرى كان عبدالله ورسولُه محمَّد بن عبدالله يوصف بأنَّه ( دَعْوَةُ أبيه إبراهيم).. قال سبحانه وتعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)} [سورة البقرة / 127-129]، وقال سبحانه وتعالى: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [سورة البقرة/ 140].
قال أبو عبدالرحمن: إذَنْ الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام كُلُّهم مُسْلِمُون وصفاً لا تسميةً بما فيهم أنبياءُ وَرُسُلُ بني إسرائيل عليهم الصلاةُ والسلام.. ولا يُسَمَّى باليهودية إلا قومَ موسى [فَتْحُ (قومَ) على أنه الْمَفْعُولُ الثاني؛ والتقديرُ: (ولا يُسَمِّيِّ الناسُ نبيّاً أو رسولاً غَيْرَ قومِ موسى.. واسْتَمَرَّتْ تسميةُ اليهودِ إلى بعْثةِ عيسى بن مريم حيثُ عُرِفَ قومُه بالنصارى.. ويترجَّحُ لديَّ أنه يَدْخُلُ في تسميةِ النصرانية الرُّسُلُ الذين أُرْسِلوا إلى أصحابِ القريةِ ، ويترجَّحُ لدي أيضاً أنَّ زكريا ويحيى داخلون في اسم اليهوديَّة.. وَاسْتَمَرَّت بعضُ العباداتِ كالاتجاه إلى بيت المقدس إلى عهد عبدالله ورسوله محمَّدِ بن عبدالله (عليهم جميعاً أَفْضَلُ الصلاةِ وأتَمُّ التسليم) حيثُ صرفه الله في مسجد القبلتين إلى مكة المكرمة كما في قولهِ سبحانه وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143) قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آَيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)} [سورة البقرة/ 143- 145] وقولهِ سبحانه وتعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)} [سورة البقرة/ 149 - 150].. وكما أسلفت لكم فإنَّ الْوَصْفَ بالإسلام شامِلٌ كلَّ أنبياء بني إسرائيلَ مِن قوم موسى وعيسى عليهما السلام ؛ ولكن تَمَيَّزَ محمدٌ صلى الله عليه وسلم ــ وهو أوَّلُ المُسْلمين تسميةً لا مُجَرَّدَ وصفٍ - بالإسلام ؛ لأن مِلَّةَ إبراهيم عليهما السلامُ مِلَّـتُه ؛ والْمِلَّةُ ههنا شاملةٌ العقيدةَ والشريعةَ ؛ فَمُحَمَّدٌ على شريعةِ أبيه إبراهيمَ عليهما الصلاة والسلام كما في أحكام الاتجاه إلى مَكَّة في الصلاة ، والخِتان ، ومناسك الحج ، وطريقةِ الذَّبح التي خالَفها قومُ عيسى وحافظ عليها قوم موسى عليهما الصلاة والسلام ، ولم يَبْقَ اليهود والنصارى على كلِّ شريعةِ إبراهيمَ ؛ وإنما بقي الـْمُؤْمِنُونَ منهم على ملة إبراهيم عقيدةً لا شريعةً.. ويشهد على أنَّ محمداً على شريعةِ أبيه إبراهيم عليهما صلواتُ الله وسلامُه وبركاته آياتٌ من القرآن كقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)} [سورة الأعلى/ 14 - 19] وكذلك قوله تعالى في الآية 36 إلى آخر الآيات من سورة النجم التي في سِياقِها.. أيْ إلى آخر الآية 56.. ويوحي سياقُ تلك الآيات بعتابِ أهلِ الكتاب الذين خالفوا بعض ما في الصحف الأولى.. وأهلُ الكتاب من اليهود لا يذكرون عاداً وثمودَ والأحزابَ من بعدهم ،وقد شهد عليهم بأنهم يعرفونهم ويعلمون أحوالَهم بيانُ مُؤْمِنِ آل فرعون رضي الله عنه ، ولعن فرعونَ وآله إلا مَن آمَنَ به من أهله كزوجته رضي الله عنها.. قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34)} [سورة غافر/ 30 - 34].. وأكثر اليهودِ مِن قوم موسى لا يذكرون البعث ولا الْـجَنَّةَ والنارَ، وقد تبلور ذلك في (رسالةُ اللاهوتِ) للفيلسوف اليهودي (إِسْبينوزا)؛ فالبعثُ عنده جنةً وناراً أنْ يسعد بمُشَارَكَتِهِ ربَّه في صفاته ؛ فكانتْ مَقُولَتا (اللهُ إنسانٌ كبيرٌ، والإنسانُ إلهٌ صَغيرٌ)، و(سَرِقَةُ شجرةِ الْخُلْدِ ): مذهبَ مَلاحدتهم قبَّحهم الله تعالى.
قال أبو عبدالرحمن: مَنْ لَمْ يَتَفَقَّه في نصوص الشرع الْـمُطَهَّرِ من القرآن والسنة ، ويُحَقِّقُ التواريخَ ثبوتاً ودلالة ، ويَسْهَرُ وَيَتْعَبُ في فَهْمِ الفلسفاتِ ، وعِلْمِ الكلامِ ، وعُلومِ الأصول ، ثُمَّ يَرَدُّ كلَّ ذلك إلى ضرورات الْـحِسِّ والعقلِ والشَّرْعِ الْـمُطَهَّرِ، ولا يسأمُ ولا يقْلَقُ ولا يَسْتَحْيِيْ إنْ أخطأ أو تَعثَّر لسانُه في النُّطقِ بالأسماء الأعْجمِيَّة والْـخَواجِيَّةِ ومصطلحهما: فهو رَخْمةٌ أخْرقُ يعيش في غير عَصْرِه، ورحم الله الإمامَ أبا محمد ابن حزم؛ فقد سبق عصره بقرون ؛ ولهذا الحديثِ بقيَّةٌ في السَّبْتيَّةِ القادمةِ، وإلى لقاء عاجل إن شاء الله تعالى، والله المستعان.