أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: اُضْطُرِرْتُ إلى تأجيل الحلقة الأخيرة مِن حديثي (ليس كلُّ خِلافٍ يُرَاعَى في الاختلاف) إلى الأسبوع القادم؛ لأنني أُريد استفتاحَ شهرِ رمضانَ المبارَك بما نحنُ له أحوج؛ لأن لهذا الشهر خصوصيةً؛ بسبب تكالُبِ أهلِ الأرض على الإسلام وَأَهلِه؛
ولأنَّ شهرَ رمضانَ مَوْسِمٌ ولا كلَّ الْمَوَاسِم؛ من أجلِ الانْطراحِ بين يدي الرب جلَّ جلالُه؛ لدفعِ البلاءِ عن المُسْلِمين، ومِن أَجْلِ إظهار دينهِ؛ فلا يَضُرُّ المسلمين مَن خَذَلَهم إلى يوم القيامةِ.. كما أنَّ النِّيَةَ الصالحةَ مِن عند المُسْلِمِ (خَيْرٌ له)؛ وذلك وَصْفٌ.. إلا أنه لا يَخرُج عن باب المفاضلةِ؛ بَيْدَ أنَّ المُفاضَلةَ مُقيَّدَةٌ بالنَّقِيضِ.. أي أنَّ النِّيَّةَ الصالحةَ خيرٌ له مِن أنْ لا يَنْوِيَها.. وليس ذلك مفاضلةً بين النِّيَّةِ وشيء آخَرَ غيرِ (أنْ لا يَنْوِي) كما في الحديث المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلَّمَ: (نِيَّةُ الْمُؤْمِن خيرٌ مِن عَمَلِه)؛ فهذا مأثورٌ ضَعَّفَه فحولُ العُلماء كالإمام ابن عبدالبرِّ رحمهم الله جميعاً، ولا يُنسب إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم؛ وإنما يُقالُ بصيغةِ التمريض: يقال، أو يُؤثَرُ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: (كذا)؛ ومِن المَعْلُومِ بالضرورةِ أنه ليس كُلُّ مأثورٍ يكون صحيحاً أو باطلاً حتى تقومَ شواهدُ الصِّحةِ أو البُطْلانِ.. إلا أنْ يكون صحيحَ المعنى بنصوصٍ صحيحةٍ صريحةٍ مِن الخارِج؛ فتقولَ: (ولَكِنَّهُ صحيحُ المعنى)، ولا تنسبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنَصِّهِ.. وأمَّا الذي نَحْنُ أحوج إليه الآن؛ مِن أجْلِ ما حلَّ بالْمُسْلِمِيْنَ مِن تكالُبِ الأعداءِ عليهم: فأنْقُلُهُ مِن آخِرِ إجازةٍ أجزتُ بها أحدَ طلبةِ العلمِ مِنْذُ يومين؛ مِمَّا كتبتُه مَوِعظَةً لي، ولجميع إخواني المسلمين؛ وهو قولي: (وآخرُ ما أوصي به الأخ الكريم، وجميعَ إخواني، وأوصي به نفسي: الحرصُ على الدعاء والأورادِ الشرعية الصحيحة ثبوتاً ودلالةً في الأوقات الموظَّفة بعد صلاة المغرب وبعد صلاة الفجر، وآخِرَ ساعةٍ من يوم الجمعة.. إلخ، وكذلك في الأوقات المخصوصة بزيادةِ فضيلةٍ كشهر رمضان المبارك، ويوم التاسع من ذي الحجة، وفي الأحوالِ الخاصة: كمن أصيب بمرضٍ، أو فسادِ ولد، أو غَلبَةِ دين.. وكالدعاء عند نزول المطر، وفي السفر بشرط تحقيق شروطِ الدعاء وآدابه: بأن لا يأكل، ولا يؤكِّل مَن يعول مالاً حَراماً؛ بلْ يأكُلُ ويُؤَكِّلُ مالاً حلالاً؛ فإنَّ أيَّ جسدٍ غُذِّيَ بالسحت فالنار أولى به، وأنْ يدعوَ ربه موقناً بالإجابة، وأن يكون على طُهْر (والأفضل أن يكون مُسْتَقْبِلاً القبلةَ)، وألَّا يستبطئ الإجابة، وأنْ يكون متضرعاً خاشعاً، وأنيقدِّم للدعاء بتمجيد الرب سبحانه وتعالى تسبيحاً وتهليلاً وتكبيراً وشكراً.. ولا ريب أنَّ الله ضامنٌ قبولَ الدعاء بوعده الكريم، مُتوعِّداً من ترك الدعاء في عدد من الآيات؛ ولا سيما في سورتي غافر، والبقرة.. ولا بدَّ - وذلك عن تجْرِبة عايشتها -: أنْ يرى المسلمُ أثرَ الدعاء في نفسه؛ حتى الكافرُ قد يستجيب له ربه لتحقيق مأربِه في دنياه؛ فإنْ كان دُعاؤُه طلبَ الهداية من ربه: أنْ ينقذه ربه من الكفر، غيرَ محاربٍ ربه بالمعصية، معترفاً بظلمه نفسَه: فإن الله ضامنٌ الإجابةَ في مسألةِ طلبِ الإيمان، ولم يضمن إجابةَ المطلوب بعينِه في أمور الدنيا كرفع المرض والفقر.. إلخ.. إلخ؛ وإنما يُحَقِّقُ له ربه (إذا لم يحقق المطلوبَ عينَه) أن يدفع عنه من البلاء والسوء ما هو أعظم، وأن يمنحه الطمأنينة والرضا.. وأمَّا الإنسانُ فلو عُمِّر ألفَ سنةٍ، وأنعم عليه بمال كثير وسيادة وسلطة وبُعْدِ صِيت: فلن ينفعه ذلك إذا كانت العُقْبَى النارَ؛ فإنَّ الإنسان إذا حضر أجله تكون حياته الدنيا كساعة أو يوم أو نصف يوم؛ بل يوقن ويعلم يقيناً أنَّ الله سيقبل منه؛ لِعِلْمِهِ بوعد ربه المعصوم عن الخُلْف، وبوعيده مَن تَرَك الدعاء.. وقد لا يحقِّق الله الوعيدَ رحمةً منه وإحساناً؛ لأنه إنْ عذَّب فبعدله، وإنْ عفا فبرحمته.. والعربُ أهلُ السليقة يذمُّون مَن أخلف وعده، ويمْدحون مَن عفا عن وعيده.. ويضاف إلى كل ذلك من شروط الدعاء وآدابه في خصوصِ دعاء الله في مسألة الإيمان خاصةً قولُ الله سبحانه وتعالى: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ [سورة يونس/ 100]؛ فالله سبحانه وتعالى في ضمانه تحقيق طلبِ الإيمان بوعده الشرعي، وفي تَحْقِيقِه سبحانه وتعالى هدايتَه الإيضاحية البيانية في قضائه الشرعي أيضاً: قد حمَّل الرِّجسَ الذين لا يعقلون؛ لأنهم يُحقِّقون الأسباب الدنيوية التي يكون بها النسل، وإخراج الثمرة من الأرض، والشفاء من المرض، أو تخفيف آلامه، ولم يقولوا: (إذا كان الله قدَّر المرض أو الفقر: فما الحاجةُ إلى الدعاء)؛ فيُقال: (فما بالكم تسارعون إلى فعل الأسباب الدنيوية ولم يَضْمَن ربكم نتائجَها بوعده الشرعي مع أنه ضمن لكم تحقيقَ المطلوبِ عينَه في مسألةِ الإيمانِ؛ ولهذا شرع الله تلاوة سورة الفاتحة سبع عشرة مرة في اليوم والليلة، وما لا يُحصى في النوافل والأوراد عب صلاتي الفجر والعشاء، وفي الرُّقْية، وهي طلب الاستقامة على صراط الله المستقيم، والبراءة من ضلال النصارى، والبراءة من الغضب الذي أحلَّه الله على يهود.. وصراطُه المُستقيم هو صراطُ الذين أنعم الله عليهم، وهم المذكورون في قوله تعالى: وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا [سورة النساء/ 69].. ولا يَقُوْلَنَّ قائل: (إذا كانت الصُّحُفُ قد جَفَّتْ: فما الحاجةُ إلى الدعاء)؛ لأنَّ ربي سبحانه وتعالى في الوقتِ الذي قال فيه ذلك قبل أنْ يخلقَ السموات والأرض بخمسين ألف سنة: أخبَرَ بأنه فَعَّالٌ لما يريد.. والمرءُ في حياته كلِّها هو بأمسِّ الحاجة إلى أدعية مُعَيَّنةٍ في كل وقت منها: في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (اللهم اِقْسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلِّغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا).. وكقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أسألك السلامة من كل إثم، والغنيمة من كل بر، والعزيمة على الرشد، والفوز بالجنة، والنجاة من النار)، يقولها ثلاث مرات، ويكرر والعزيمة على الرشد ثلاث مرات أيضاً.. وأوصي بحفظ كتاب حصن المسلم لِـ(سعيد بن علي بن وهف القحطاني) بشرط أن يرجع إلى الأصول التي خرَّج منها كصحيح البخاري ومسلم، ويصطفي ما صحَّ دلالة وثبوتاً، ثم يصطفي أجْمَعَها؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص على جوامع الكلم.. ومن تلك الأدعية الشديدةِ النفعِ ما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم إني عبدك ابنُ عبدك ابن أمتك.. ناصيتي بيدك، ماضِ فيَّ حكمك، عدل فيَّ قضاؤك.. أسألك بكل اسم هو لك: سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك: أنْ تجعل القرآن الكريم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي)).. ومِن الأفضل أنْ تَنْوِيَ أهلَك وجميعَ إخوانك المُسْلمِين؛ فتقولَ: (ربيع قلوبنا.. إلخ..)، مع العلم أنَّ محقِّقي المسند الذي صدر أخيراً في خمسةٍ وخمسين مجلداً عن مؤسسة الرسالة: صحَّحُوا هذا الحديث.. إلا أنهم وجدوا الألباني رحمه الله تعالى ضعَّفه؛ فأخذوا بقوله.. ووجهُ تضعيفِه: أنَّ راوِيَه مرةً أبو موسى، ومرةً أبو عبدالله!!.. وهذا من أفسد التَّضْعِيف؛ لأنالناسَ منذ عصر السليقة العربية إلى يومنا هذا يُحِبُّون الكُنْيَة؛ وقد تكون للإنسان زوجتان؛ فيكنَّى بالولد الأكبر من زوجته الأولى، ويكنى بابنه الأكبر من زوجته الثانية.. وقد تتعدَّد الكنية بسبب آخر كأنْ يكون أحد الابنين ارتدَّ عن دينه؛ فَيَتَكَنَّى بالابن الذي يليه إنْ لم يكنْ له غيرُ زوجةٍ واحدةٍ، أو يتَكَنَّى بالابن الأكبر من الزوجةِ الثَّانية.. ثُمَّ من ناحية المتن فكل فقرة من فقرات الحديث ثابِتَةٌ بالتواتر من نصوص شرعية أخرى.. ثم أذكر أخيراً من النصوص الجامعة المحقِّقةِ أمورَ الدنيا والآخرة الصحيحة ثبوتاً ودلالة، التي ينبغي أن يُكَرِّرها المسلم في كل حينٍ: الدعاءُ الثري الذي جاء في صحيح مسلم: ((جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: عَلِّمْنِي كَلَامًا أَقُولُهُ؟.. قَال [رسول الله صلى الله عليه وسلم]: ((قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.. اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيراً، وَالْحَمْدُ لِلَّـهِ كثِيراً.. سُبْحَانَ اللَّـهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّـهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ)).. قَالَ: فَهَؤُلَاءِ لِرَبِّي فَمَا لِي ؟.. قَالَ: « قُلِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي، وَاهْدِنِي وَارْزُقْنِي)).. رواه مسلم 4-2072، وزاد أبو داوود: فلما ولى الأعرابي قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لقد ملأَ يديه من الخير)).. وفي ظُرُوْفِنا الآن: فالانطراحُ بين يديْ الله بالدعاءِ أمسُّ وأوجب.. ولا سيما الدُّعاءُ الْمُقْتَبَسُ مِن نصوصٍ صحيحة صريحة، وهو: ((حسبنا الله لا إله إلا هو عليه توكلنا وهو ربُّ العرشِ العظيم.. هو مولانا نعم الْمَوْلَى ونِعْمَ النصير.. ربَّنا انصرنا على القوم الكافرين، ولا تجعلنا فتنةً للقوم الظالمين، وَنَجِّنا برحمتك مِن القوم الكافرين)).. وآخر دعوانا: أنْ الحمدُ لله رب العالمين، وسلام على عباده المرسلين))، وإلى لقاءٍ عاجلٍ قريبٍ إن شاء الله تعالى، والله المستعان.