أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
في الأسبوع الماضي كتب أحدُ مشايخ العصر شيخُنا الخثلان مَتَّعنا الله بوجوده وبعلمه: أنَّ إطالةَ الدعاء وتنْغيمَه في آخر ركعات الوتر في صلاة التراويح: (ليس هو مما عَمِلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم).. وما قاله هو الحقُّ، وهو الذي عليه السَّلَفُ وأتباعهم؛ ومِـمَّا صَحَّ عن الخليفةِ الراشدِ عُمَرَ
بنِ الخطاب رضي الله عنه هذا الدعاء: ((اللَّهُمَّ إيَّاكَ نَعْبُدُ، وَلَك نُصَلِّي وَنَسْجُدُ، وَإِلَيْك نَسْعَى وَنَحْفِدُ: نَرْجُو رَحْمَتَك، وَنَخْشى عَذَابَك.. إنَّ عَذَابَك بِالْكَافِرِينَ مُلْحَقٌ.. [وسمعتُ بعضَ أَئِمَّةَ المساجد: يقول (مُلْحِق) بكسر الحاء المهملة؛ وإنما هو بفتحها (مُلْحَقٌ)، ولا معنى للكسر؛ فماذا سَيُلْحِقُ العذابُ بهم؟!.. هل يلحق بهم الذُّلَ ودخولَ النار؟!.. هذا تحصيلُ حاصل؛ بل العذابُ الذي نتائجه دخولُ النار وحصولُ الذُّلِّ كائِنٌ بإلحاقِ العذاب بهم؛ فهو لا حِقٌ بهم مع نتائجه].. اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَعِينُك، وَنَسْتَغْفِرُك، وَنُثْنِي عَلَيْكَ الخيرَ ولا نَكْفُرُكَ.. وَنُؤْمِنُ بِكَ، وَنَخْضَعُ لَكَ، وَنَخْلَعُ مَنْ يَكْفُرُكَ)).. وهذا الدُّعاءُ أسنده أصحاب السننِ الأربع؛ وهو صحيح صَحَّحه الترمذي، والبيهقي، وغيرُهم.. ومِنَ المعاصرين الشيخ الألباني وغيرُهم رحمهم الله جميعاً.. ولم يَأْثُرْعمرُ رضي الله عنه هذا الدعاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنْ لم يكنْ مِن مأثورِه مِمَّا تَفَرَّد به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهو صحيح المَعاني؛ فكلُّ جملةٍ منه مِـمَّا دلَّ عليها الشرعُ المُطهَّر بنصوصِه الصحيحة الصريحة.. ومِمَّا صَحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح مسلم -: ((اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِنِي شَرَّمَا قْضَيْتَ؛ فإنَّكَ تقضِي ولا يُقْضَى عليْكَ.. إِنَّهُ لا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ، [ولا يَعِزُّ مَنْ عَادَيتَ] - مابين المعقوفتين [] عن السنن وغيرها، وهو صحيحٌ -؛ تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْت.. اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ.. لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ،أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ)).. قال الترمذي رحمه الله تعالى: ((هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْحَوْرَاءِ السَّعْدِيِّ؛ وَاسْمُهُ رَبِيعَةُ بْنُ شَيْبَانَ.. وَلَا نَعْرِفُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْقُنُوتِ فِي الْوِتْرِ شَيْئًا أَحْسَنَ مِنْ هَذَا)).. يعني بذلك ما أسنده أهلُ السننِ وغيرُهم؛ وهو: ((حََّثَنَا قُتَيْبَةُ.. قال: حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ: عَنْ أَبِي إِسْحَقَ: عَنْ بُرَيْدِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ: عَنْ أَبِي الْحَوْرَاءِ.. قَالَ: قَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ [رَضِيَ الله عَنْهُمَا]: عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ فِي الْوِتْرِ: ((اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ؛ فَإِنَّكَ تَقْضِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْكَ، وَإِنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ؛ تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ)).. ولم يردْ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقرأ دعاءَ الوتر دائماً لا في رمضان ولا في غيره؛ وإنما كان صلى الله عليه وسلم في غيرِ ركعتَيْ سُنَّةِ الفجر يطيل الدعاءَ والتسبيح والتهليل والتكبير والاستغفارَ وتمجيد الرب في وقوفه وفي سجوده، وفي كلِّ ما هو مشروع في أجزاء الصلاة؛ فهذا هو قنوتُه؛ إذْ القنوت طولُ الدعاء الْـمَشْروعِ في أجزاء الصلاة؛ والأصلُ إطالةُ التَّبتلِ، وأما الْـقُنُوت بمعنى إطالةِ الوقُوفِ فهو مجازٌ بالتخصيص.. والمشروع إذا كان إماماً يُصَلَّي بالجماعة، أو كان يُضْمِرُ أهلَه وولَده ووالديه وإخوانَه المسلِمين: أنْ يَدْعُو للجميع؛ بإيرادِ اللفظ بواو الجماعة: (اللهمُ اهدنا.. إلخ).
قال أبو عبدالرحمن: وبعد هذا البيان فلا بُدَّ مِنْ بيانِ خصوصيَّةِ هذا الشهر المبارك في عامِنا هذا الذي تكالبتْ فيه على غَزْوِ المسلمين الصهيونيةُ العالمية، ومَن لا دينَ له، ويَجْحَدُ أنَّ هناك رَبّْاً على سُنَّةِ عادٍ وثمودَ وغيرهم الذين (كفروا ربِّهم)، ولم يكفروا بربهم وحسبُ، وكلُّهم شرٌّ، ولكنَّ (الْـعَلْمانيةَ) بمعنى جحدِ الرب سبحانه وتعالى أَشَدُّ كفراً.. وتتابعَ معهم على غَزْوِ المسلمين تضليلاً، ومحاولةِ اِسْتِلْحامِهم مع استئْصالِ أرواحٍ بلغتْ الملايين، وأفرزتْ أمراضاً خطيرةً مِن روائح الجثث، ووُجِدت مِن جرَّاء ذلك عشراتُ (الفيروسات) القاتلة.. كما تلَوَّث الْبَرُّ والجوُّ، وتلوَّثت البحار، وكثرت أمراضُ الجُنون، والأمراضُ النفسية، والانتحار.. ووُجِدت عشرات الْفِرَقِ والشعارات مثلِ: داعش، وجبهة النصرة، وأحرار الشام، وجيش الفتح، والمتطرِّفين من الإخوانيين.. إلخ.. وَوُجِد كلُّ ما أخبر به ربنا سبحانه وتعالى عن ظهور الفسادِ في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، ووجودِ أوبئة وأمراض لم تُوجدْ في سلفنا، ووجِد كَثْرَةُ الهرجِ؛ وهو القَتْل.. وبراري المسلمين وقُراهم وآبارهم هي مَدْفَنُ الأوبئة القاتلة؛ والأممُ القويَّة - والقَّوةُ لله وحده سبحانه وتعالى - في عافيةٍ مِن ذلك إلا الأقلِّ، وجمهورُ الأقَلِّ يُشْفون بالله ثم بالأسباب الطِّبية التي يملكها أعداء أمَّتنا.
قال أبو عبدالرحمن: إذن نحن في وقْتٍ يُـخْشَى فيه مِن اسْتئصال بيضةِ المسلمين وحصاتِهم؛ فالقنوت بالدعاء، والتضرُّع، والإطالةِ في ذلك، ورفع الأيدي: واجب لازم؛ وليس مشروعاً وحسبُ.. ولنا أسوةٌ في رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعائه على أعداءِ أُمته في صلواته، وفي دعائه وتضرُّعه ورفع يديه الكريمتين في غير صلاته.. يدعو على الكفارِ قُبيل وعند التحامِ معركة بدر حتى أشفق عليه أبو بكرٍ الصِّديق رض الله عنه، ورفع رداءه إلى كتفيه، وقال: (والله لا يخزيك الله أبداً).. وربُّنا حَيِيٌّ كريم يَسْتَحْييْ أنْ يردَّ سؤالَ عبيده؛ وهو الغنيُّ الحميدُ الواحدُ القهَّار.. ولقد استهلكتْ هذه الظروفُ القاتِمةُ حَجْم سبتيَّتي، وحسبي أن أذكر نموذجاً واحداً إضافةً إلى ما سبق عن أهل السليقة، وأنهم أَفْقَهُ الناس في معرفة مُرادِ الله في شرعه؛ ولهذا قامَتْ عليهم حُجَّةُ الله سبحانه وتعالى في وجوب الإيمان به، وهم محجوجونَ على وجوب طاعَتِهم شرعَ ربهم؛ إلا أنَّـهم مُطالبون بالأمانةِ مع آيات الله الكونية في الأنفس والآفاق مما هو مِن ضرورات عقولهم؛ إذْ هُمْ بين أمانتين: أولاهما أنْ لا يجحدوا ما عَلِموا، وأُخْراهما أنْ لا يفتروا ما ليس لهم به عِلْمٌ.. ونموذجي في هذه السَّبتية - وسأذكر إن شاء الله تعالى نماذجَ كثيرةً في مناسبات قادمة -: هو قوله سبحانه وتعالى عن الملائكة عليهم سلام الله وبركاته: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [سورة التحريم/ 6].. ولقد سألني أحدُ طلبةِ العلم ونحن معاً في جُدةَ صُحْبَةَ صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز رحمه الله تعالى قائلاً: أليس كَوْنُهم لا يعصون اللهَ ما أمرهم هو نفسُه قولُه تعالى ويفعلون ما يُؤْمرون؟.. ولكنَّ عربيَّ السليقةِ لا يَرِدُ عليه هذا الإشكالُ؛ بل يعرف بسليقته أنَّه لا تَكْرارَ في الآية؛ لأنَّ مَن لا يعصي أَمْرَ ربه قد لا يستطيع فِعْلَ المأمور به بلا زيادة أو نقص؛ بل المأمورون ههنا وهَبهم ربُّهم أدَاءَ المأمورِ به بلا زيادةٍ ولا نقص.. وغيرُهم قد يكون في حال نشاطٍ وحيويَّة؛ فيفعلُ طاعةً لربِّه أكثرَ من المأمور به، وقد يكون في حال ضعفٍ وَقِلَّة نشاط؛ فيعجزُ عن الإتيان بكل المأمور به؛ ولهذا رحم الله عباده المُكلَّفين مِن غيرِ الملائكة عليهم السلام؛ فأسقط عنهم ما لا يقدرون عليه؛ وذلك ببلاغ رسول الله صلى الله عليه وسلمفي قوله: ((إذا أمرتكم بأمرٍ فَأْتوا منه ما استطعتم))، وهذا الإعفاء أيضاً مستنبط مِنْ قوله تعالى: {وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا} [سورة البقرة/ 286]، وقد أبلغ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أمَّته بما أوحى الله إليه؛ وهو قولُه سبحانه وتعالى: (قد فعلتُ) بَعْدَ الدعاء بالآية الكريمة، وإلى لقاء عاجلٍ إن شاء الله تعالى، والله المستعان.