نجيب الخنيزي
المقال السابق كان بمثابة مقدمة نظرية تطرقت فيها بإيجاز شديد لموضوع الأخلاق في الأديان السماوية والعقائد والأعراف القديمة. كما لدى الفلسفات الكلاسيكية.
غير أن ما شدني للكتابة هو واقع عملي، عايشته بمرارة وبالتأكيد عايشه الكثير من المواطنين، وهو يتعلق بموقعية الأخلاق في بيئة العمل وتحديدا بيئة العمل في القطاع الخاص.
ومع أنه سبق لي أن عملت في القطاع الخاص من خلال مؤسسة تخصني وتختص في الإنشاءات والصيانة والديكور، وذلك طيلة أكثر من عقدين، وبالتالي على دراية بالسلبيات العديدة التي تسم سوق العمل وعمل الشركات والمؤسسات التي تتعامل مع الأفراد، لكن لم تعد لي صلة بهذا القطاع على مدى أكثر من عقد، وبالتالي كادت تضيع وتمحو تفاصيل تلك المرحلة والتجربة، التي تنفست الصعداء حين تحررت منها.
حين قررت عمل صيانة شبه شاملة لمنزلي، ويا للهول كانت صدمتي لا حدود لها ومن العيار الثقيل، فمن واقع التجربة وعلى مدى أشهر من المعاناة والإحباط لمست ما يتعرض له المواطن من شتى صنوف التحايل والغش والتسويف من قبل المؤسسات العاملة في قطاع الإنشاءات والصيانة والخدمات والقطاع التجاري على حد سواء. لا يتعلق ذلك في احتكار العمالة الأجنبية لسوق العمل في مختلف المجالات وتحت واجهات سعودية فقط، بل ينطبق ذلك على سعر وقيمة المنتج أو السلعة أو الخدمة الواحدة، التي تتفاوت بدرجة كبيرة بين مكان وآخر، ومرورا بنوعية وجودة الخدمة والعمل التي تتسم غالبا بالرداءة والغش والتلاعب، وانتهاء بتجاوز الوقت والزمن المحدد المنصوص عليه في الاتفاق، مع ما يترتب عليه من إهدار للوقت والجهد والمال في غير وجه حق.
كنت أظن أنه مع إطلالة شهر رمضان المبارك، فإن حالة الخشوع والروحانية التي يبثها هذا الشهر الفضيل ستحد من هذه الظاهرة، غير أننا نجد العكس، حيث ازدادت الأسعار بشكل مفتعل ليس صعيد المأكولات الرمضانية فقط، بل غالبية السلع (وغالبيها مقلدة وذات نوعية رديئة) والخدمات، وفي أغلب الحالات يكون المواطن ضحية لتلك الممارسات الاحتيالية التي لا تتفق مع المفاهيم والتعاليم الدينية من جهة، والأخلاق والمبادئ الإنسانية من جهة أخرى، التي تتمحور حول الصدق والأمانة وحفظ الحقوق وقد جاء في الحديث الشريف «لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له».
في غالبية الدول المتقدمة، إلى جانب اللجان الحكومة والمحاكم القضائية الخاصة، هناك منظمات مدنية تطوعية لحماية المستهلك وهي تلعب دورا محوريا لمراقبة الأسعار وجودة الخدمة، ويستحضرني هنا رالف نادر وهو محام وناشط سياسي أمريكي عربي من أصل لبناني، وسبق له أن ترشح في الانتخابات الأمريكية، فقد شن رالف نادر حملات متتالية على الشركات الكبرى التي تسيطر على الحياة الاقتصادية في المجتمع الأميركي ابتداء بصناعة السيارات، إلى الدفاع عن حقوق المستهلك، وانتهاء بالسياسة الخارجية التي وصفها بالإمبريالية. كما هز كتابه «سيارة غير آمنة أبدا»، 1965، مباهاة صناعة السيارات الأميركية على غيرها من السيارات الأجنبية. وبدأت حرب إعلامية متبادلة، إذ عرى نادر هذه الصناعة أمام الرأي العام وبرهن أن ما تنتجه من سيارات لا يستهدف سلامة السائق بقدر ما ركزت على السرعة والمنظر دون الكفاءة. حزام الأمان الذي ينقذ من الأرواح الآلاف كل عام كان قد طوّر منذ الحرب العالمية الأولى، لكنه لم يتم إدخاله في صناعة السيارات إلا بعد شن نادر حملته عليهم.
قيام لجان أهلية مدنية أو لجان حكومة/ أهلية مختلطة لمراقبة التلاعب بالأسعار والجودة، وسن القوانين والأنظمة الرادعة التي تحمي حقوق المستهلك باتت ضرورة وطنية واقتصادية واجتماعية.