نجيب الخنيزي
العرب يعيشون هذه اللحظة التاريخية المفصلية الراهنة التي ستقرر إلى حد كبير مصير ومستقبل النظام العربي الرسمي والدولة العربية المعاصرة التي تشكلت في بدايات القرن العشرين المنصرم. السؤال المؤرق الذي يطرح نفسه بقوة: هل بالإمكان وقف حالة التدهور والتفكك السياسي والاجتماعي والثقافي والأمني، وتصدر الصراعات والحروب الدموية من منطلقات دينية ومذهبية ومناطقية وقبلية في العديد من الدول العربية، ومنع امتداداتها إلى دول الجوار؟ لا شك أن جذر الأزمة وهي أزمة بنيوية مركبة و شاملة وممتدة في العمق وفي تجلياتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية والفكرية والنفسية،كما أن معطياتها موجود وكامن (بنسب مختلفة) في الكثير من البلدان والمجتمعات العربية التي تتشابه في أوضاعها وظروفها العامة، وبالتالي ستظل على الدوام عرضة للتأثر، سواء بفعل ديناميكية الحراك والفرز الاجتماعي، واحتدام التناقضات الداخلية بفعل الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية المتدهورة، واستفحال الصراع الاثني والديني والطائفي والجهوي، أو بفعل المؤثرات والعوامل (الدولية والإقليمية) الخارجية التي قد تدخل على الخط بدوافع مصلحية في المقام الأول.
عملية التفكيك والهدم ومن ثم إعادة تركيب وصوغ أوضاع المنطقة العربية تظل أمراً قائماً على الدوام، وهو مثبت في السيناريوهات المختلفة المعدة في مطابخ الدول الكبرى وبعض الدول الإقليمية. ضمن هذه الرؤية نستطيع فهم ما يجري من حوادث مأساوية في العديد من البلدان العربية، من تفاقم حدة الصراعات والاحتقانات والصراعات الدموية الطائفية والدينية والاثنية، كما هو الحال في العراق وسوريا وليبيا واليمن والسودان والصومال ومصر وتونس ولبنان، وفي غالبية تلك الدول يطل تنظيم «داعش» الإرهابي والتشكيلات الإرهابية المماثلة بوصفها معول هدم وتفتيت للدول والمجتمعات العربية والإسلامية .
التجارب تؤكد أن الوضع العربي العام وقابليته الداخلية للاختراق والانفجار لا يعودان إلى التآمر الخارجي أو الداخلي فحسب، وإنما هناك الممارسات والسياسات التدميرية للدولة العربية التي تتسم عموماً بضيق الأفق وتقديم المصالح الفئوية الخاصة والآنية على حساب المصلحة الوطنية العليا وهو ما تجلى بوضوح في البلدان التي شهدت ما يسمى «بثورات الربيع العربي» وخاصة في العراق وسوريا.
غير أنه في هذه المرحلة التاريخية الدقيقة والخطيرة التي يعيشها العالم العربي علينا معاينة الدور التخريبي والمدمر الذي تمارسه الجماعات الإرهابية المتطرفة التي باتت تمتلك أجندتها السياسية والأيديولوجية الخاصة، وتسعى جاهدة إلى فرضها عن طريق العنف والإرهاب المادي والرمزي، وبأساليب همجية وبدائية، وقد تمكنت في كثير من الدول من اختطاف المجتمع أو جزء منه مستفيدة في الغالب من رعاية ودعم جهات خارجية وداخلية متنفذة، وحيث تسعى جاهدة عن طريق العنف والإرهاب إلى اختطاف وتدمير الدولة وإقامة خلافتها أو إمبراطوريتها المزعومة، مستفيدة من حال الفراغ العام في المجتمع.
المدخل الصحيح والوحيد عن حال الانهيار الشامل، وتجاوز الأزمة العميقة وتداعياتها الخطيرة التي تخترق في العمق العديد من المجتمعات العربية، ومنع امتداد هذا الخطر إلى بلدان أخرى يتطلب حلولاً وطنية شاملة وجذرية.
على صعيد بلادنا نحن أكثر من أي وقت مضى، أمام مسؤوليتنا الوطنية المشتركة في حماية تماسك جبهتنا الداخلية، وتكريس السلم الأهلي بين مختلف مكونات المجتمع، وصون المنجزات التي تحققت، وهو ما يستدعي مواجهة هذا الخطر الداهم المتمثل في تنظيم «داعش»الذي أعلن عن استهدافه لدول ومناطق جديدة خارج نطاق سيطرته الحالية ومن بينها بلادنا وأراد إثبات وجوده الميداني من خلال عملياته الإرهابية الأخيرة في القديح والدمام وقبلهما في بلدة الدالوة في محافظة الأحساء، وقبل ذلك استهداف رجال الأمن ومقراتهم والمجمعات السكنية. لقد جرى تفكيك العشرات من الشبكات الإرهابية التي تضم المئات والقبض على أعضائها في غضون السنوات الأخيرة غير انه في مثل هذه الظروف الصعبة، ليس مقبولاً من أحد المراوحة، الفرجة، والتقاعس تحت أي عنوان ومبرر. الجميع في قارب واحد إن نجا أو غرق هذا القارب، فهذا سيشمل الجميع، لذلك يتعين على الجميع الوقوف صفاً واحداً (مع الدولة والوطن والمجتمع) إزاء الإرهاب وتجلياته المختلفة، من أجل إلحاق الهزيمة الماحقة والنهائية لمخططاته الشيطانية. التجربة الواقعية تفيد بأن المواجهة والمعالجة الأمنية لا تكفي لوحدها هنا، رغم الكفاءة العالية لأجهزة الأمن في مقارعة الإرهاب والتي هي مبعث فخر واعتزاز للجميع، وعلينا أن نتذكر دائما أنه بفضل جهودهم وتضحياتهم المتميزة حفظت ثروات وموارد ومقدرات الوطن، وقبل كل شيء أرواح الآلاف من المواطنين والمقيمين. غير أن هناك حقيقة لا يمكن إنكارها هي أن الإرهاب يتناسل ويتجدد ويطل برأسه على امتداد دول العالم. هزيمة الإرهاب بصورة نهائية تتطلب وضع الفأس عند الجذر، وذلك من خلال تجفيف منابعه وحواضنه المادية، السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، والفكرية كافة.