نجيب الخنيزي
الهوية الوطنية لأي شعب، ليس معطى ثابتاً ومنجزاً ونهائياً. إنها تتشكل في مجرى التطور التاريخي -الموضوعي، ومن خلال نضج أو إنضاج المقومات والمقدمات السياسية/ الاقتصادية/ الاجتماعية/ الثقافية.
وقبل كل شيء صوغ وتحقيق معادلة المصالح المشتركة والمتداخلة والمتكافئة (ولو بشكل نسبي) بين الهويات الخاصة (الفرعية) لمكونات أي جماعة بشرية والمنصهرة في إطار وطني متحد، وبكلمة صياغة الفضاء الوطني العام الذي يحترم التنوع والتعدد في إطار الوحدة الوطنية الشاملة، وهذا يعني في التحليل النهائي أولوية الهوية والانتماء الوطني إزاء الهويات الفرعية الخاصة التي تحافظ على وزنها الطبيعي والعادي بين مكونات المجتمع الواحد.
تلك بعض المحددات الرئيسة، لتشكيل الهوية الوطنية الراسخة والدائمة، والمتجددة في مراحل الأزمات والانعطافات والاستحقاقات المفصلية التي تواجهها، وهو ما ينطبق على ما يمر به العالم العربي وجل المجتمعات والشعوب العربية في الوقت الراهن من مخاطر جمة جراء استشراء العنف والصراعات والحروب وفقاً للهويات الفرعية، وهو ما يهدد أسس وجودها ويكرس حال التشظي والانشطار وفقاً للانقسامات المذهبية والإثنية والقبلية.
الهوية الوطنية هنا تختلف وتتمايز عن تلك الروابط والصلات التي شهدتها الإمبراطوريات والممالك القديمة، التي غلب عليها طابع الإلحاق والضم والتبعية القسرية للأطراف من قبل المركز. بطبيعة الحال هناك اختلافات وتباينات بين التكوينات والتجمعات الإنسانية فيما بينها وفي داخلها، وفي سياقات تطورها التاريخي، وطبيعة خصائصها، ومستوى تجانسها الأثني/ الديني/ المذهبي/ اللغوي.
مفهوم الهوية الوطنية بالمعنى السائد اليوم، هو من المفاهيم الغربية (المستوردة)، التي ارتبطت بالسياق التاريخي لتطور مفهوم الدولة الحديثة في أوروبا، والذي واكب ظهور، وتشكل، ثم صعود البرجوازية (سكان المدن) في قلب أحشاء المجتمعات الإقطاعية في أوروبا.
بدءاً من عصر النهضة، والإصلاح الديني، ومروراً بعصر التنوير أو الأنوار، الثورة العلمية/ الصناعية، وانتهاء بالثورات البرجوازية، التي دكت دعائم العلاقات الإقطاعية وأنظمة الحكم المطلق في أوروبا، التي باتت بتكوينها الاستبدادي، وبعلاقاتها الإنتاجية والاجتماعية العتيقة والبالية معيقة ومعرقلة للتطور.
مما مهد الطريق لانبثاق مفاهيم جديدة حديثة.
في سيرورة هذه العملية التاريخية الطوية نسبياً (ثلاثة قرون) التي مرت بها أوروبا ترسخ مفهوم الدولة -الأمة، الدستور، المواطنة المتساوية بين الجميع، التداول السلمي للسلطة. وذلك على أرضية المجتمع المدني، الذي يتمثل، في وجود رأي عام وصحافة وإعلام حر (نسبياً)، وأحزاب سياسية، واتحادات عمالية، مهنية، منظمات اجتماعية، شبابية، نسائية، طلابية، بيئية وغيرها، وهي تشكيلات، يغلب عليها كونها جماعات مدنية تطوعية مستقلة، تمثل بمجموعها مؤسسات المجتمع المدني، كمعادل موضوعي إزاء المجتمع السياسي (الدولة). الدولة التي هي عموماً، جهاز بيروقراطي، يقف نظرياً «محايداً» فوق طبقات المجتمع، ويمارس تنظيم أو -بصورة أدق- احتكار القوة من خلال الإدارة والقانون والقضاء والبوليس.
منطقتنا العربية التي انقطع مسار تطورها على مدى قرون، ودخلت في سبات حضاري شامل، وذلك لأسباب وعوامل داخلية وخارجية مختلفة، في مقدمتها هيمنة المنهج النقلي، النصي، المثالي، الغيبي، وتغيب ومحاربة العقل، الفكر، الاجتهاد، والإبداع، باعتبارها من البدع الشيطانية، التي تستوجب محاربتها واستئصال متبنيها. الأمر الذي أدى إلى بروز وترسيخ ظاهرة حكم الاستبداد، ومنظريه، وامتد ذلك طويلاً، وتكرس في مرحلة السيطرة العثمانية على عموم المنطقة العربية، الذي استمر قروناً، ثم أعقبه التسلط الاستعماري الأوروبي، ثم الهيمنة الإمبريالية الغربية وخصوصاً الأميركية. كل ذلك كرس التخلف والتبعية لجل البلدان العربية، وأعاق -ولا يزال- تطورها الطبيعي والمستقل.
كما كان من نتائجه غياب أو ضعف الحامل (الطبقات الحديثة) الاجتماعي الجديد، وتحديداً البرجوازية الوطنية، وهو ما وسم الطبيعة المحافظة والمشوهة للرأسمالية الناشئة، بحكم أصولها الإقطاعية ومنحدراتها الريفية، أو كونها تابعاً ووسيطاً (كمبرادور) للرأسمالية الغربية، وهو ما فاقم هذه الحالة.
كما نشير إلى الموقف السلبي إن لم يكن المعادي الذي جوبه به المشروع العربي النهضوي، بما في ذلك فكرة إصلاح وتطوير الخطاب الديني، سواء من قبل الأنظمة أو المؤسسات الدينية (السنية والشيعية) على حد سواء، وهو ما مهد الطريق إلى ظهور الحركات السلفية، الأصولية المتشددة، وفي مقدمتها حركة الإخوان المسلمين، التي مثلت نكوصاً حاداً عن توجهات العقلانية، فكر الاستنارة، الانفتاح الديني، التعددية، العلم، والحداثة، بجميع صورها الذي رفع لواءه رواد النهضة العظام، ومن عباءة الإخوان تناسلت غالبية الحركات المتطرفة والإرهابية التي تتشح زوراً بالإسلام، وفي وقتنا الراهن تمثل «داعش» وشقيقاتها وممارساتهم البشعة ذروة الفكر التكفيري والفاشية الدينية بامتياز.
وللحديث صلة