نجيب الخنيزي
..سؤال الأخلاق هو حلقة مركزية في تعاليم الإسلام والديانات السماوية بل وغير السماوية حيث تضمنت القواعد العامة للأخلاق باعتباره قيمة معنوية وسمة إنسانية وخاصية فردية واجتماعية بامتياز اكتسبها الإنسان وراكمها وقوننها من خلال التعاليم الدينية والتشريعات والأنظمة الوضعية خلال مسيرته التاريخية منذ الطفولة البشرية وحتى وقتنا الحاضر.
كما يتمظهر الأخلاق كسؤال فلسفي مركزي في الفلسفات والحضارات (الفرعونية وما بين النهرين والصينية والإغريقية والهندية والرومانية والفارسية وغيرها) القديمة، والفلسفة الأوروبية (والكلاسيكية) منذ عصر النهضة ومرورًا بمرحلة الأنوار، وانتهاء بالفلسفة المعاصرة، حيث ارتبط بمفاهيم أساسية مثل الماهية والكينونة والوجود والتملك.
إشكالية هذا السؤال الوجودي ارتبط بمدى التطابق مع قضايا جوهرية تمس وجود الإنسان كذات فاعلة مثل المجتمع والاقتصاد والعمل وجوهر الدولة والعلاقات الدولية، الحرب والسلام، البيئة، الإرهاب، الحرية والعدالة والتعددية وغيرها من القضايا والمفاهيم التي تشكل نواظم موضوعية للوجود الإِنساني.
وقد جاءت الأحاديث والمرويات النبوية لتؤكد على مركزية الأخلاق كناظم ملزم للوجود البشري نذكر من بينها ما روي عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» وبطبيعة الحال أنه يتحدث عن المجتمعات السابقة على الإسلام بشكل عام، على تعدد مشاربها ومعتقداتها.
وقوله «إن أقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحسنكم أخلاقا» وقوله «إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم» وقوله «أتَدْرُونَ ما المُفْلِسُ؟ ـ فقالوا: المفْلسُ فينا من لا درهم له، ولا متاع، فقال: إن المفْلسَ مَنْ يأتي يوم القيامة؛ بصلاة، وصيام، وزكاة، ويأتي قد شَتَمَ هذا، وقذفَ هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطَى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فَنيَتْ حَسَناتُهُ ـ قبل أن يُقْضى ما عليه ـ أخذ من خطاياهم؛ فطُرِحَتْ عليه، ثم يُطْرَحُ في النار.
الأطروحات الفلسفية الكلاسيكية، اعتبرت مفهوم الواجب حلقة مركزية في الفلسفة الأخلاقية، وهو يشكل إحدى المقولات الأساسية التي أنبنى عليها التفكير الفلسفي في الشق الأخلاقي إلى جانب قيم أخرى كالسعادة والعدالة والحرية الخ.
استعرضت نشرة الفلسفة، مفهوم الواجب من الوجهة الفلسفية، حيث اعتبره كانط، كونه القيام بالفعل احترامًا للقانون ـ القانون الذاتي الأخلاقي القائم على الخير الأسمى، والمؤسس على العقل والإرادة، إلى جانب الإرادة والحكم الأخلاقي إِذ يصدر عن الإرادة الخيرة الحرة ـ التي مصدرها العقل، في حين تتمثل أطروحة هيجل للواجب بأنه ذو طابع مؤسساتي وغايته هي إقامة الدولة القوية التي يبتدئ بناء صرحها من الفرد الذي ينصهر في الكل، ويجب على الفرد الذي يؤدي واجبه أن يحقق مصلحته الشخصية أو إشباعه وأن يتحول الشأن العام إلى شأن خاص بفعل وضعيته داخل الدولة.
وفي المقابل يرى غويو أن الفعل الأخلاقي لا يجب أن يصدر عن إلزام ولا عن خوف من أي جزاء أو عقاب. إنما يكون هو فعلاً تأسيسيًا لمسار الحياة الذي لا ينتهي، ولغايات حددتها الطبيعة الإنسانية بوصفها فاعلية مطلقة نحو الحياة. لكن الواجب الأخلاقي من وجهة النظر الطبيعية هاته التي ليس فيها شيء غيبي، يرتد إلى القانون الطبيعي الشامل، فمصدره هو الشعور الفياض «بأننا عشنا وأننا أدينا مهمتنا... وسوف تستمر الحياة بعدنا، من دوننا، ولكن لعل لنا بعض الفضل في هذا الاستمرار».
في حين يرى روسو أن الوعي الأخلاقي إحساس داخلي موطنه وجداننا فنحن نحسه قبل معرفته وهو الذي يساعدنا على التمييز بين الخير والشر، والحسن والقبيح وهي إحساسات طبيعية وفطرية يسعى الإنسان من خلالها إلى تفادي ما يلحق الأذى به وبالآخرين ويميل إلى ما يعود عليه وعلى الآخرين بالنفع. الأمر الذي يقوي لديه الوعي الأخلاقي فيجعله متميزاً عن باقي الكائنات الحيوانية الأخرى.
أما ماكس فيبر فينصرف في حديثه عن الواجب الأخلاقي والأخلاق عمومًا إلى القول بأن الأخلاق في مجملها تنقسم إلى نمطين اثنين: نمط أول موسوم بأخلاق الاقتناع ذات المظهر المثالي والمتعالى التي يكون فيها الفرد غير متحمل لأية مسؤولية، وإنما هي مركونة إلى المؤثرات والعوامل الخارجية التي لا يتدخل فيها الفرد، حيث أخلاقية الاقتناع لن ترجع المسؤولية إلى الفاعل، بل إلى العالم المحيط وإلى حماقة البشر وإلى مشيئة الله الذي خلق الناس على بهذه الصورة.
ونمط ثانٍ من الأخلاق هو ما أطلق عليه أخلاق المسؤولية، التي تصدر من الذات الفردية وتتأسس على الوعي الفردي الحر، إِذ «نحن مسئولون عن النتائج التي تمكن توقعها لأفعالنا»، ولا ترجع المسؤولية إلى بعد خارجي قسري، لا علاقة لهذه الأخلاق بالقدر أو بالحظ. وللحديث صلة.