د. محمد البشر
العراق بلد الحضارة والعلم والثقافة، بلد التاريخ وقبل كل ذلك بلد التعايش بين الأديان والمذاهب والأعراف، وكان العراق تحت الحكم العثماني، والاستعمار الإنجليزي، والحكم الملكي، ثم بعد ذلك الجمهوري، وبعد كل ذلك فوضى عارمة كان أسسها الطائفية والعرقية، ولم تهنأ العراق بعد أن نشبت تلك الحرب بين الشعب الواحد.
لم يكن لتلك الحرب أن تقوم لولا تدخل دول عظمى، وأخرى إقليمية أرادت فرض مذهبها بعد أن أصبح ذلك المذهب ملهماً لسياستها الخارجية، وهذا أمر محزن حقاً، فلم تكن العلاقات بين الدول لتستقر إذا كان أساسها مذهبياً لا سيما الدول المتجاورة، والمتنوعة المشارب.
عندما يكون هناك تدخلٌ في دول أخرى لفرض فكر، أو طائفة، أو عُرف فإن ذلك سيجد مقاومة من الجهة المتضررة، ومن ثم تضرم النار، فإذا لم يوجد من يُطفئها من العقلاء، فإنها ستأتي على الأخضر واليابس.
الحرب العراقية القائمة الآن بين أبناء الشعب الواحد، مأساة حقيقية صنعها التدخل الأجنبي وما يهم هو إيجاد الحلول، وليس تحديد الأسباب، فالشعب العراقي يموت، والبنية التحتية تتهدم، والنساء ثكلى، والأطفال لا عائل لهم.
في ظل هذه الأوضاع خرجت بذرة داعش للعلن، ونمت وترعرعت وكان إصرار طائفة بعينها على فرض نفسها وطائفتها على من سواها هو النبع الذي كان يسقي داعش وما زال، ويساعد على نموها السريع والغريب، رغم محاولة البعض الجادة والبعض الآخر غير الجادة إلى الحد من ذلك النمو المتسارع، وغير القابل حتى الآن للتراجع.
لقد حاول الجيش العراقي محاربة داعش بمساعدة من طيران التحالف، وسلاح التحالف، ولكنه حتى هذه الساعة لم يفلح، فحاول الاستعانة بالحشد الشعبي الذي قد جربه فيما مضى فكان ما كان.. ولكن من المؤسف حقاً أن يكون شعار ذلك الحشد شعاراً طائفياً بحتاً، وهل حقاً قام ذلك الحشد لتلبية نداء طائفي أم هو لبسط السلم والمحبة والتوافق بين أبناء الحضارة الواحدة والبلد الواحد، إنه لمحزن حقاً أن يكون الشعار المطروح للحرب ضد داعش شعاراً لا بد له أن ينفر طائفة أخرى ترى نفسها مستهدفة من قبل من كانوا يعيشون مع بعضهم سواء بسواء لا فرق بين هذا وذاك.
إن هذا الشعار الذي رفعه الحشد الشعبي، تنبعث منه رائحة الطائفية التي لن تكون قادرة على الخلاص من إرهاب داعش، لأن ذلك غير ممكن إطلاقاً ولا أرى أي شعار يمكنه القضاء على داعش سوى شعار المحبة والسلام والإخاء والخلاص من الإرهاب بأشكاله ونبذ الطائفية، والعيش على تراب واحد وبقلب واحد، مع رؤية لمستقبل واعد، يحمل بين طياته الكثير من الأمل للجميع، فلا يمكن لطائفة أن يكون لها السطوة وفرض طائفتها على أقرانها، وأصحاب الحق في العيش على ذلك التراب الذي ليس سوى أديم آبائهم وأجدادهم منذ آلاف السنين.
من العجيب أن جزءاً كبيراً من الحشد الشعبي، هو نفسه قد حارب التحالف، والتحالف حاربه بضراوة في فترة من الزمن، وكانت الفيالق الطائفية ترفع الموت لذلك التحالف، أما الآن فإن الجميع يحارب داعش في صف واحد، ومع ذلك فإن داعش ظلت قائمة.
لا أجد مجالاً للتفكير أو حتى مخرجاً لمعرفة المآل الذي سيصل إليه العراق إذا كانت الرايات المرفوعة لحرب داعش الإرهابي عنصرية وطائفية لدرجة لا تختلف عن فكر داعش.. فكلاهما لا يقبلان التعايش والمحبة والسلام، وقبول الآخر بما يحمله من فكر ورؤية دينية واجتماعية، طالما أنها لا تضر بالآخر ولا تهمشه، ولا تجعله أسيراً لأهواء الطائفية التي ينتمي إليها.
العراق بلد المحبة والخير والعلم والسخاء والجميع ينتظر انتصار العقول وليس السلاح والقتل والدمار والطائفية والبغض والكراهية.
حمانا الله وإياكم ورزقنا الحكمة والثبات.