د. محمد عبدالله العوين
كان الطالب من أجيال ما قبل 1400هـ يتخرج في المرحلة الثانوية وقد أصبح بمثابة مشروع عالم صغير يستطيع أن يجيب على أسئلة من حوله ويفتيهم في القضايا الدينية وعلوم اللغة العربية، وبخاصة إن كان من المحظوظين الذين درسوا في المعاهد العلمية التي كانت تسمى سابقًا «الرئاسة العامة للمعاهد العلمية» قبل أن تضم إلى جامعة الإمام.
كان الطالب المتخرج في الثانوية ومن باب أولى في الجامعة أيًا كان تخصصه لا يلحن في الكتابة أو النطق؛ فلم تكن كتابة الهمزات ولا التاء المفتوحة أو المربوطة أو الألف المقصورة أو الممدودة مشكلة عويصة وتحديًا صعبًا؛ كما هي معضلة كثيرين من المتخرجين في الجامعات اليوم على اختلاف تخصصاتهم.
كانت أجيال ذلك الزمن الجميل مقبلة على التعلم حبًا فيه؛ لا سعيًا بشهادته إلى وظيفة، وحتى لو كانت الشهادة لا تدل على صاحبها ولا تقيس علمه ولا تمنحه الحق في الحصول على الوظيفة التي يسعى إليها أو يتمناها؛ ولأن الغاية كانت العلم تحقق لألئك العلم والوظيفة؛ ولأن غاية كثيرين من أبناء هذا الجيل الحصول على الشهادة فحسب ثم الوظيفة؛ تحققت لبعضهم الوظائف الكبيرة التي يتربع على كراسيها رؤوس فارغة!
لقد كتب إلى وكيل إحدى الوزارات المهمة خطابًا بخط يده مكونًا من خمسة أسطر لم يسلم كل سطر من خمسة أخطاء نحوية أو إملائية؛ فتساءلت: كيف تعلم هذا؟ ومن منحه شهادة الدكتوراه؟ ومن هم أساتذته؟ أما إذا ألقى؛ فلي ولكم الحسرات إن استمعتم إليه يفجر إبداعات ما تعلمه وما تلقنه وما نال به شهاداته في مراحله كلها؛ بحيث لا يدع قاعدة صغيرة ولا كبيرة ولا عرفًا لغويًا ولا جملة شائعة معلومة إلا وأسبغ عليها من كريم فضله وعميم علمه ما يدمر لغة القرآن الكريم ويجعلها في آذان مستمعيه لغة جديدة لا تمت إلى العربية بنسب، ولا يمكن لمن يستمع إلى شدوه إلا أن يطمئن إلى أن هذا الدكتور المسؤول الواقف أمامهم لم يدخل مدرسة قط!
ذلك جيل ممتاز؛ كان شغله الشاغل القراءة والاطلاع والحفظ والمناقشة وتشقيق الأسئلة، جيل كان يعشق الكتاب والمجلة والصحيفة، وفيها غنى وثراء وعوالم بهيجة، وهذا جيل تتوافر لديه مصادر المعلومات وموارد المعرفة؛ ولكن كثيرين منه لا يستطيعون الإجابة على سؤال عابر عن معلومة عامة في التاريخ أو السياسة أو الإعلام أو الدين أو اللغة أو الأدب.
جيل اليوم نتاج لإيقاع عصره وثمرة للهاثه وركضه وتزاحمه وتسابقه إلى الثراء بالمادة والمظهر لا بالمعنى والمخبر، فهو حريص على نيل أعلى الدرجات من دون أن يقدم معلومة صحيحة، وعلى كسب أعلى الشهادات دون أن يعوج ظهره عاكفًا على كتبه، وعلى أرفع وظيفة دون أن تكون لديه الكفاءة الذاتية الحقيقية لشغلها؛ لا الشهادة الممهورة بأختام لا تمثل حقيقته.
جيل اليوم فقد المكتبات في المدارس؛ فلم يعد الكتاب ولا المجلة ولا الصحيفة صديقًا مألوفًا وعالمًا رحبًا يحلق به إلى آفاق المعلوم والمعارف، ويتوهم من أدخله إلى عالم الجهل هذا أن الآيباد أو الكمبيوتر ومحركات البحث ستكون البدائل الحقيقية عن الورق المطبوع، وهو وهم استقر في أذهان بعض القائمين على التعليم؛ فقطعوا الصلة وأضعفوا التواصل مع المصدر الأصلي للتعلم؛ وهو الكتاب المطبوع.
فأمر غير مسلم به أبدًا أن تعليمًا أقل وتعلمًا أكثر سيبني الأجيال؛ بل تعليم وتعلم أكثر معًا وبعناية وبتكامل بينهما، وإن من العجب أن تكون الدعوة إلى الإقلال من التعليم والإكثار من التعلم شعارًا للوزارة المعنية بالتعليم، وهي رؤية أو تجربة لدولة شرق آسيوية قد لا تكون ناجحة بامتياز، وربما تراجعت عنها، وهي أيضًا غير قارة ومعرضة للقبول أو الرفض؛ بينما لا يخفي على أي بصير مدرك شدة التلازم بين مصطلحي «التعليم والتعلم» وأن الثاني نتاج وثمرة يانعة للأول.