د.عبدالله مناع
يبدو أن صحيفة (سورجو) التركية.. كانت هي الأصدق في توصيفها لـ(نتائج) الانتخابات البرلمانية التركية، التي جرت يوم الأحد الماضي، وظهرت نتائجها مساء اليوم التالي.. عندما قالت: (إن الناخبين الأتراك: رفعوا «البطاقة الحمراء» لـ»أردوغان»)..!! وهو ما يعني أنهم ما عادوا يريدونه وحزبه (حزب العدالة والتنمية) الإسلامي منفردين بالسلطتين:
(رئاسة الجمهورية) و(رئاسة الحكومة) التنفيذية.. رغم فوز حزبه (العدالة والتنمية) بـ(41 %) من مقاعد البرلمان الـ(550).. أي بـ(258) مقعداً، إلا أن هذه النسبة وهذا العدد من المقاعد لا يوفران له (الأغلبية) التي تمكن (حزبه) من تشكيل الحكومة القادمة.. منفرداً، ليجد نفسه أمام خيارات ثلاثة: إما أن يكلف رئيس حكومته الحالي ووزير خارجيته السابق (داود أحمد أوغلو).. بتشكيل حكومة (أقلية) محكوم عليها بالفشل أمام معارضيه والمتربصين به، أو أن يأتلف مع أي من الأحزاب الثلاث التي تقاسمه مقاعد البرلمان، أو أن يدعو إلى انتخابات جديدة أخرى بعد خمسة وأربعين يوماً.. على أمل أن يحصل على تلك الأغلبية (50 %) من مقاعد البرلمان أو أكثر، ليشكل الحكومة التي يريدها من (حزب العدالة والتنمية) وحده.. وليحقق هدفه (الأهم) من خلال هذه الأغلبية إن تحققت في تغيير نظام الحكم التركي: من (نظام برلماني).. تحتكم فيه الوزارة التركية وخططها لـ(البرلمان) وأعضائه.. إلى (نظام رئاسي) يكون رئيس الجمهورية فيه هو رئيس الحكومة الذي يعين رئيس الوزراء والوزراء أنفسهم ويحتكم في قراراته وأعماله إلى (الأمة).. وليس البرلمان - عبر استفتاءات مباشرة - إذا لزم الأمر.. أي أن الأمر كله سيكون بيد الرئيس رجب طيب أردوغان، وهو ما كان يسعى إليه في هذه الانتخابات.. واثقاً مطمئناً لـ(كرزمته) الكاسحة، ومرتكزاً على إنجازاته: الاقتصادية.. التي فرَّغت الشارع التركي من بطالته، والسياسية.. التي جعلته يناطح شيمون بيريز على الهواء مباشرة في «ديفوس»، ويرسل بأسطول الحرية لكسر الحصار الإسرائيلي على (غزة)، والتي أعطته مجتمعة وحزبه - العدالة والتنمية - تلك الأغلبية المريحتة (50 %) في الانتخابات البرلمانية - أو التشريعية - السابقة.. وجعلته يرشح نفسه لـ(الرئاسة) ويفوز بها ويضع وزير خارجيته - أحمد داود أوغلو - في رئاسة الحكومة.. ويصبح بحق (كمال أتاتورك) الثاني أو (أب الشعب التركي) الجديد!!
لكن الأحزاب السياسية الأخرى (الشعب الجمهوري والعمل القومي، والشعب الديمقراطي الكردي).. قطعت الطريق عليه وعلى قاطرة (العدالة والتنمية)، وسحبت منه قاعدة (الأغلبية) البرلمانية أو جسر عبوره إليها، ليتهاوى صرح (العدالة والتنمية) المنشود.. الذي بُني على وهم (الأغلبية) التي لم تتحقق، ليجد نفسه في مستنقع تلك الخيارات الثلاث التي أشرت إليها.. والتي لن يوصله الأخذ بأي منها إلى ما يريد سواء بـ(بعث) الخلافة فكرة.. أو بتنصيب الخليفة الجديد رجب طيب أردوغان..!!
لقد تغافل الرئيس أردوغان ولم يسهُ أو ينسى.. عن تلك الأحداث الجسام التي عصفت بدول جواره على شواطئ البحر الأبيض المتوسط.. فيما عرف بـ(ربيع الحرية)، الذي هب على (تونس) فـ (مصر) في أواخر عام 2010م وأوائل عام 2011م على التوالي.. وما أفرزه ذلك الربيع من وصول (إخوان) تونس (النهضة) وإخوان مصر (الإخوان المسلمون) إلى السلطة وما فعلوه وارتكبوه بعد ذلك من حماقات وجرائم لا تزال عالقة بالأذهان، كما تغافل عن تلك السمعة السيئة التي انتهى إليها الإسلام السياسي.. إجمالاً، من خلال فرقه وجماعاته التي لا تعد ولا تحصى.. وظن أن أداء (إخوان تركيا) عبر حزب (العدالة والتنمية) مختلف تماماً.. وأن إنجازاته الاقتصادية محلياً، وإنجازاته السياسية دولياً عند العرب والمسلمين خاصة - طوال فترتي حزب العدالة والتنمية في الحكم - ستكون شفيعاً ورسولاً له عند الناخب التركي.. بينما قرأ الناخب التركي ما حدث في كلا البلدين على نحو صحيح مغاير.. وهو يستوعب أسباب (التوانسة) في احتواء (إخوان تونس) النهضة بالتفافهم حول (نداء تونس)، وكيف استطاع (المصريون) أن يتخلصوا من حكم الإخوان الذي أكرهوا عليه طوال عام (من يونيه 2012م - إلى يونيه 2013م).. بثورة معارضتهم الشعبية التي دعت لها (حركة تمرد) والتف حولها الأزهر والكنيسة وائتلاف أحزاب المعارضة التي كان (مرسي) لا يلقي لها بالاً ولا سمعاً، ليعبِّر الناخبون الأتراك على طريقتهم وعبر (صناديق الاقتراع) و(مشاركتهم) الكثيفة التي بلغت لأول مرة نسبة 85 % من الثلاثة والخمسين مليون ناخب وناخبة.. عن (حيلولتهم) دون بلوغ حزب (العدالة والتنمية).. تلك (الأغلبية) التي بنى عليها كل قصوره وآماله.. حتى لا يتحول (الرئيس) رجب طيب أردوغان.. إلى (الخليفة) رجب طيب أردوغان..؟! تحت نظام رئاسي يمنحه الرئاستين: (الجمهورية) و(الوزراء) معاً.. فيصبح لا رادَّ لكلمته..!!
لقد عارض الرئيس أردوغان ثورة الثلاثين من يونيه الشعبية الجارفة.. معارضة خرجت به من دائرة الرأي السياسي المسموح به، وأوصلته إلى دائرة التدخل في الشأن الداخلي المصري غير المسموح به، عندما هدد بـ(قطع) العلاقات مع مصر.. إذا لم يعد (مرسي) لقصر (الاتحادية).. ليس انتصاراً لـ(الديمقراطية) المصرية التي سحقها الجيش المصري.. كما كان يدعي، ولكن انتصاراً لـ(توأمه) السياسي: حزب الحرية والعدالة الإخواني.. ولانتمائهما المشترك في التنظيم الدولي للإخوان برعاية الولايات المتحدة الأمريكية، لبعث دولة الخلافة مجدداً.. ليكون أردوغان هو (الخليفة) ومرسي.. هو (والي مصر)..!!
لقد كان لهذا البلد.. العظيم بتاريخه، والجميل بموقعه، والغني بحضارته وتراثه وآثاره ومتاحفه ومساجده ومعابده وقصوره ومعاهده ومكتباته التي يحج إليها ملايين السواح من أقاصي الأرض على مدار العام.. نقلاته السياسية الحادة غير المفهومة أحياناً، وغير المهضومة دائماً.. فبعد هزيمة (الإمبراطورية العثمانية) في الحرب العالمية الأولى، واقتسام المنتصريْن (بريطانيا وفرنسا) لممتلكاتها التي كانت لا تغيب عنها الشمس، وسقوط دولة الخلافة الإسلامية.. لاحقاً في عام 1923م.. تركت تركيا الإسلام - جملة وتفصيلاً - فلم يبق منه إلا شعائره وعباداته في قلوب المؤمنين به.. إلى (العلمانية) الكاملة، التي امتدت إلى تغيير حروف اللغة التركية.. من الحروف (العربية) إلى الحروف (اللاتينية) عام 1932م..!!
وبعد أن قاومت دولة الخلافة - أيام السلطان عبدالحميد (بيع) الأراضي الفلسطينية للملياردير (روتشلد) لإقامة الدولة الإسرائيلية عليها..كانت الجمهورية التركية من أوائل دول العالم التي تعترف بـ(إسرائيل) بعد قيامها عام 48، وتقيم معها أفضل العلاقات.. الدبلوماسية والتجارية.
أما بعد الحرب العالمية الثانية.. وشروع الولايات المتحدة في إقامة أحلاف لمحاصرة (الاتحاد السوفييتي).. فقد كانت الجمهورية التركية أحد الأعضاء البارزين والمهمين في حلف (بغداد) المركزي إلى جانب عراق - نوري السعيد - وباكستان وبريطانيا بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية في الخمسينات من القرن الماضي.
على أن الأحَدَّ في النقلات السياسية.. غير المفهومة وغير المهضومة، كان في انضمام تركيا.. إلى حلف شمال الأطلسي أو (حلف الناتو) الذي أقيم أساساً لحماية دول العالم المسيحي..!!
لكن ذلك التاريخ التركي الحائر والمتخبط في نقلاته السياسية الحادة.. بعد هزيمتي الحربين العالميتين الأولى والثانية.. والمعادي للعروبة والإسلام في عمومه توقف مع قدوم المهندس (تورجات أوزال) - في ثمانينات ا لقرن الماضي - زعيم (حزب الوطن الأم)، الذي قاد تركيا ببراعة وإتقان.. وهو يهندس لها طريقاً وسطاً لا يعادي فيه الشرق ولا ينحاز فيه إلى الغرب ويفتح نوافذه لـ(العروبة) وصدره لـ(إسلام) مستنير، يقبل العصر ولا يناوئه.. وهو ما فتح الطريق لزعيم حزب (العدالة والتنمية) ومؤسسة (نجم الدين أربكان)، والذي سقط فيما بعد بعنعناته وتشدده الإسلامي، ليأتي خلفه (رجب طيب أردوغان).. ليجدد شباب الحزب، ويخفف من عنعناته.. فيقود تركيا في دورته الأولى كرئيس للوزراء إلى ذلك النجاح الاقتصادي والسياسي الذي لم ينسه الأتراك، ولكن موازينه اختلت مع دورته الثانية التي حملته لرئاسة الوزارة مجدداً بأصوات 50% من الناخبين.. وجعلته يدخل في عنعنات إسلامية جديدة بدأت بـ(حجاب) رأس زوجته.. فـ (علاقته) مع إخوان مصر.. فـ (تنظيم) الإخوان الدولي وأحلام الجمع بين (الرئاستين).. فأحلام (الخلافة) التي سحبت من تحته بساط (الأغلبية). فـ(الناخبون) الأتراك - كما يلوح - يريدون رئيساً للجمهورية أو الوزراء.. كـ(أردوغان) في فترته الأولى، ولا يريدون رئيساً يجمع السلطتين في يده.. فضلاً عن أن يكون (خليفة للمسلمين) مقره استنبول أو أنقرة..!!