د. جاسر الحربش
إذا شاب الغراب أتيت أهلي
وصار القار كاللبن الحليب
السندباد في جزيرة الرخ والعنقاء
عندما يستطيع الفلسطينيون الإجماع على مصلحتهم الوحيدة، الحصول على وطن، سوف يكون ذلك المؤشر الأول والأهم على عودة العقل العربي بكامله إلى مكانه الصحيح.
في بداية عاصفة الحزم حدث تضامن عربي شبه شامل وغير متوقع. المصلحة كانت واحدة، ردم التوسع والتخريب الإيراني إلى مناطق عربية إضافية. ما زال بعض التضامن العربي مع عاصفة الحزم موجوداً، ولكن يجب الاعتراف بوجود من يلعب بذيله تحت الطاولة.
أعود للفلسطينيين ومصلحتهم الوحيدة، الحصول على وطن. حالياً يتجاوز عدد الفلسطينيين في العالم الاثني عشر مليوناً، نصفهم في المنافي والنصف الآخر إما تحت الرقابة المشددة المباشرة أو الحصار داخل الكانتونات. كيف استطاع شعب هذا بؤس أحواله أن يتملص من غريزة وواجب التضامن التي يفرضها عليه فقدان الوطن والهوية ويفرط بالوقت والدماء في الصراعات الجانبية والمصالح الشخصية.
لقد تلاعبت بنا الحكومات العربية وفرّقت بيننا، هذا هو الجواب الأول والمتوقع من الفلسطيني على الفور. على الفور أيضاً ينطلق سؤال مضاد، لماذا سمحتم للحكومات العربية أن تتلاعب بكم، هل السبب هو مقادير الأمن والكرامة والتنمية التي وفرتها الحكومات العربية لشعوبها أولاً ثم للفلسطينيين المبعثرين على أراضيها؟ هل هو التضامن المقنع بين هذه الحكومات مع بعضها في المسألة الفلسطينية، أم الانسجام المفقود بين هذه الدول تجاه القضايا الوطنية الكبرى على الأقل لمقاومة تقويضها دولة بعد أخرى؟
تتوالى الأسئلة ولكن تنتفي الإجابات المقنعة. رغم كثرة الأسئلة يبقى سؤالان تفرضهما الإجابات السلبية على أي تساؤل آخر. السؤال الأول يتعلق بولاء الفصائل الفلسطينية للحكومات المستضيفة وتقديمه على ولاء الالتزام بالحق الفلسطيني الأهم، وعما إذا كان لذلك مقابل مادي انتفاعي غير ما يصرح به من تطابق وجهات النظر في المؤتمرات الإعلامية؟ السؤال الثاني يتعلق بحقيقة التطابق المدهش بين الطريقة التي تتعامل بها الفصائل الفلسطينية ضد بعضها مع الطرق التي تتعامل بها الحكومات العربية ضد بعضها حيال قضاياها الخاصة. سوف أوجه السؤال بطريقة أوضح: هل قيادات الفصائل الفلسطينية المتعددة مقدودة ومعجونة من نفس الطينة السائدة في كامل الرقعة الجغرافية العربية؟ ربما كان هذا هو الجواب المناسب على كل التساؤلات لأن من يشابه أهله فما ظلم.
الأسماء النوعية المستعملة لتصنيف الفلسطينيين: هي عرب الداخل وعرب الحكم الذاتي وعرب الشتات. لنتجاوز عن عرب الداخل الواقعين تحت سيطرة الإدارة الإسرائيلية المباشرة، فمنهم من انسجم مع المحتل ومنهم من يصمت على مضض بانتظار الفرج القادم من السماء، والقليل منهم يعلن تمسكه بالحق التاريخي ورفض الاحتلال ليتحمل ما يترتب على ذلك من اضطهاد وتضييق في الرزق والحركة.
لكن ماذا عن فلسطينيي الحكم الذاتي وفلسطينيي الشتات؟ لماذا لم يتمكنوا منذ النكبة الأولى من تشكيل تيار واحد بهدف واحد لا غير، استرجاع الوطن مهما كلف ذلك، مع التأجيل للخلافات العقائدية والشخصية إلى ما بعد التحرير؟
الذي حصل منذ الخروج الأول إلى الشتات الفلسطيني عام 47/48م أن تشتتت أيضاً الولاءات الفلسطينية إلى فصائل تتقاتل فيما بينها، انسجاماً مع أجندات الحكومات العربية التي تتعامل معها وتمولها. توالت بعد ذلك النكبات والتهجير، ورغم ذلك لم يتخذ الفلسطينيون من النموذج الجزائري أو الفيتنامي على سبيل المثال قدوة في تأجيل الاختلافات والتوجه إلى الهدف النهائي، أي استرجاع الوطن أولاً قبل أي كلام. اللافت في التفتت الفلسطيني هو تطابقه مع التفتت العربي الأكبر. ما وصل العرب إليه من الافتراقات وصل إليه الفلسطينيون أيضاً، رغم أحادية ووضوح القضية الفلسطينية والتميز المعرفي والثقافي للإنسان الفلسطيني واستعداده المتكرر لتقديم التضحيات.
واقع الحال الآن هو أن المكونين الأيديولوجيين الأكبر للفلسطينيين داخل ما يسمى بمناطق الحكم الذاتي، منظمة فتح ومنظمة حماس تتقاتلان فيما بينهما، كما تتقاتل أيضاً تفرعات كل واحدة مع بعضها داخل نفس المنظمة.
من أوضح دلالات الضياع والتشتت أن صراعات الفصائل الفلسطينية لم توفر حتى التجمعات الفلسطينية في أمريكا وكندا وأوروبا وأستراليا، فهذه أيضاً نقلت معها نفس الأجندات والعداوات. هنا أتوقف عن التوغل في هذا الوضع الكئيب والمحبط لأتساءل: متى يتوقف الفلسطينيون عن محاكاة الحكومات العربية، ويؤجلون تناقضاتهم وأطماعهم الشخصية ويتبنون قضيتهم الحقيقية، ثم بعد ذلك فليتقاتلوا كما يحلو لهم حتى آخر رمق.