لبنى الخميس
خرج أبو محمد من دوامه الحكومي في «عز القايلة» -وهو يلعن في سرّه نار الشمس ولهيب المصاريف التي بدأت تأكله- قاصداً البنك الذي استودعه على مدى عقود ما كان يتبقى من فتات الراتب، فابنه البكر محمد تخرج منذ أشهر قليلة من ثانوية القرية في منطقة نجران بتفوق يُنبئ بمستقبل مميز، وهو يصرّ أن يرسله إلى الولايات المتحدة علّه يحظى بفرصة لتعلم الإنجليزية، ويعود إلى الوطن متسلحاً بشهادة تعليم جامعي أفضل، خصوصاً وأن الدولة قدمت فرصة لأبنائها لتحقيق هذا الحلم عبر برنامج خادم الحرمين الشريفين الملك عبدلله للابتعاث الخارجي.
بعد أيام، سافر محمد من نجران إلى الرياض لحضور ملتقى المبتعثين، ليقف على شروط ومتطلبات الالتحاق بالبعثة، فأخبره مسؤولو البرنامج أن عليه أن يسافر أولاً على حسابه الخاص لمدة أربعة أشهر، مؤكدين وجازمين بأنه سينضم إلى البعثة بعد ذلك إن كانت الجامعة معتمدة، والتخصص مقبولاً، والمعدل جيداً.
لم يتوان والده على أن يقدم ما ادّخره لسنوات طويلة لإتمام حلم دراسة فلذة كبده في أمريكا.. وما هي إلا شهور قليلة حتى انتهى مطاف ابنه في ولاية «فيرجينيا» بعد أن حصل على موافقة الدراسة على حسابه الخاص، المرحلة التي تسبق الانضمام إلى البعثة.
بعد أن حط محمد رحاله في أمريكا.. بدأ موظفو البنك في نجران يعتادون على رؤية أبو محمد مرة إلى مرتين شهرياً طالباً تحويل ما تيسر من ماله إلى ابنه المبتعث، بعد أن أثقلته تكاليف المعهد والكتب وإيجار السكن ومصاريف الجيب، آملاً أن يتوقف هذا النزيف بعد المئة والعشرين يوماً الموعودة.
مضت أربعة.. خمسة.. ستة.. سبعة.. ثمانية.. وتسعة أشهر.. والملحقية تماطل وتصرف الوعود حيناً، وتلقي باللوم على الوزارة أحياناً أخرى، ونزيف المصاريف أفرغ جيوب أهالي المبتعثين البسطاء، الواقعين بين سندان التعليم المحلي المتواضع الذي يقود إلى مصير شبه مؤكد للبطالة.. ومطرقة التعليم الخارجي المكلف حد الاقتراض وسط غياب الوزارة عن المشهد.
عاد ابن الوطن المتفوق محمد إلى نجران.. بعد أن تلاشى حلمه وحلم أسرته.. رغم الديون التي تكالبت على كاهل والده، وعشرات المعاريض والبرقيات التي تحمل لغة رجاء وتسول لضمه.. حتى أدرك لاحقاً بأنه «ينفخ في قربة مفقوعة».. وأن تلك الرحلة التي توقع أن تجلب له ولابنه الفخر والعزة.. لم تجره سوى لمزيد من الحسرة والذل.
فلماذا لا زالت وزارة التعليم تصر على صمتها على الرغم من ضجيج وأنين الدارسين على حسابهم الخاص الذي ملأ فضاء المجالس ومواقع التواصل الاجتماعي؟ لماذا لم نرَ وزير التعليم الدكتور عزام الدخيل في مؤتمر أو لقاء صحفي يوضح رأي الوزارة بشفافية ووضوح تجاه تلك القضية المتفاقمة؟ وما بال مشروع خادم الحرمين الشريفين الملك عبد لله رحمه الله عاجزاً عن ضم بضعة آلاف طالب رغم أن ميزانية التعليم العام تقدر بـ 217 مليار ريال؟ هل يدرك المسؤولون خطورة أن يعود شباب متفوق طابق شروط الوزارة للانضمام واستعصى انضمامه بسبب شروط وعراقيل تتفنن الوزارة في خلقها؟ هل تساءلت عن مصير هؤلاء المشبعين بطاقة الغضب والإحباط؟ أو عن ذنبهم في تلك القوانين الجديدة التي تصيغها دون مراعاة لما قد تخلفها من تداعيات؟.
لا تجعلوا الفراغ والإحباط يتمكن من طيور وطننا المهاجرة لتحلق في فضاءات العلم وأفلاك المعرفة.. فأبناؤنا المبتعثون هم أمل الوطن وأحد وجوهه المشرفة.. التي قد تخلصنا من نيران التطرف، وتخفف من وطأة الخطاب الطائفي والعنصري المشحون بأحادية الرأي ورفض الآخر.. والذي بتنا نتجرع سمومه.
أخيراً.. أرجو أن يلتفت المسؤولون بجدية إلى ملف الدارسين على حسابهم الخاص الغاصّ بطول الانتظار والشكوى، ويقدموا لهم كافة الامتيازات التي وُعدوا بها أثناء الملتقيات وشدوا الرحال إلى دول الابتعاث على إثرها، وألا يتم معالجة الموضوع بالمزيد من الصمت أو الامتيازات المبتورة.
شباب الوطن هم مستقبله وأغلى استثماراته.. ولعل وزيرنا المثقف الذي تلقى درجتي الماجستير والدكتوراه من أمريكا، وأمطرنا بوابل من المديح والثناء في كتبه وتغريداته عبر السنين بتجارب التعليم الأجنبي أكثر من يدرك ذلك.. فهل بعد الإدراك فعل؟.