د. حمزة السالم
ما أزال إلى اليوم، تعاودني ذكريات ألم الضياع والتيه الذي كنت أجده في المراحل الأولى من برنامج الدكتوراة. فمواضيع مواد دراسات الدكتوراة في غالب العلوم، ذات صبغة نظرية تجردية محضة. وعندما شكوت حالي للدكتور، أشار علي أن أستمع للكلمات والمحاضرات التي يلقيها قرين سبان، رئيس الفدرالي المركزي. ولا زلت أذكر عندما جلست أستمع له، أول مرة، وهو يتحدث حول موضوع يتعلق بالعملة الدولية وأثرها على الاقتصاد المحلي، شارحاً للكونجرس، مستقبل الدولار مع قرب ظهور اليورو وأثر ذلك على الاقتصاد الأمريكي. ففي حدود ساعة من الطرح، وساعتين أو نحوها من الإجابة على التساؤلات والتحديات المعارضة من قيادات الكونجرس، فهمت من ذلك الرجل كثيرا من النظريات الاقتصادية التي كنا ندرسها بقالب رياضي مُجرد، بعيد عن أي مفهوم اقتصادي.
ومنذ ذلك الحين، اتخذت لنفسي دروساً خصوصية من الكلمات المتخصصة لوزير المالية التي يلقيها أمام الكونجرس خاصة، ومن الكلمات التخصصية لرؤساء وأعضاء المجالس في التجارة الدولية وفي هيئة الضرائب وفي الهيئات الرسمية الرقابية، كهيئة سوق المال. دروساً خصوصية مجانية، كشفت لي عن طلاسم المحاضرات والكتب.
وأصبحت بعدها كثيراً ما أستمع للنقاشات التي تدور في الكونجرس، والبرامج الحوارية الراقية في القنوات المعتبرة سواء في التلفزيون أو الراديو، التي تدور نقاشاتها حول السياسات والقرارات الاقتصادية أو الصحية أو الاجتماعية أو النقاشات الدينية. فعادة ما يكون المتحاورون من أساتذة الجامعات، أو وزراء سابقين أو حاليين أو أعضاء في اللجان الاستشارية أو في مجالس الهيئات التنفيذية. وقد افتقدت هذا كله عندما عدت للديار، بل لا أعرف حتى أسماء كثير من الوزراء فضلاً عن معرفة وجود المجالس للهيئات التنفيذية، لا أسماء أعضائها. فأكثر ما يستطيع الوزير أو المسؤول، إصدار تصريح صحفي. ولكن لماذا وكيف ولم لا يكون القرار المُصرَّح به على عكسه، فهذا أمر مسكوت عنه، فلم هو مسكوت عنه.
لم لا يخرج من تحمل القرار فيقوم بواجبه أمام المجتمع السعودي، فينتصر لقراره علمياً ويدافع عنه بالرد على الخيارات البديلة أو بتفنيد الطروحات الضحلة أو الخاطئة. وإن كانت بعض التجارب عادت على المسؤول بسخرية الشارع منه، فهذا ليس بسبب الشارع، ولكن بسبب عدم فهم المسؤول لمنطقية القرار الذي اتخذه، وعدم إدراكه لمنطقية أو الحجج المعارضة له أو الاستخفاف بها، أو بسبب عدم إدراك المسؤول لخلفية الأرقام التي يستشهد بها. فذكر الأرقام الإحصائية الرائعة لا بد لها من أن تُدعم بأسباب عدم رؤية الناس لها على أرض الواقع.
المسؤول الحكومي مسئول عن صحة معلوماته وصحة منطقه العلمي. ولهذا فظهور المسؤول الحكومي لشرح سياسته المتبعة، وللرد على المعارضين علنياً ومنطقياً وإحصائياً أمر حتمي لتأسيس مرجع إعلامي -صحيح علمياً ومنطقياً- يعود إليه المتحاجون والمتناظرون. فبلادنا ليس فيها مراجع علمية موثوق بها، بعد أن كثرت الإشاعات والطروحات المغالطة أو الخاطئة. والقرارات لا تتخذها الوزارة إلا عــن دراسة مستفيضة. ولكــن يجب ظهور الوزير شارحاً ومدافعــاً، لكي تتأسس الثقة الشعبية في صحة الدراسات، وجودة المستشار وأمانته، أو صحة خيارات الحلول، وعدم الميولات الشخصية أو غلبة التصورات الخاصة، أو على الأقل لنبني الثقة بمنطقيتها.
لماذا لم نر قط، في جامعة أو مؤتمر علمي، مسؤولاً يشرح علمياً مبررات قراره ويتلقى الأسئلة العلمية المعارضة من أساتذة الجامعات المتخصصين، أو الأسئلة المنطقية المتحدية من أعضاء المؤتمر باختلاف تخصصاتهم.
الجامعات في العالم المتطور هي أنسب الأماكن للوزراء لطرح سياساتهم أمامها، فهل يترفع عنها الوزراء عندنا أم أنهم يخشون منها؟
لماذا لم نر قط حواراً تلفزيونياً بين وزير وبين متخصص، لماذا لا نسمع الوزراء قط يتحدثون إلا في عموميات وتاريخ انجازات سابق. بل لماذا لم نر أشكال وملامح بعض الوزراء قط - إلا في صور- حتى ولو كانوا من وزراء الوزارات المتعلقة كثيراً بالشارع والمجتمع.
التصريحات الصحفية المقتضبة، وحتى المُطولة لا تقوم مقام المسؤول، ولا تبني الثقة فيه ولا في القرارات الحكومية. نحن بحاجة للقاءات يتمكن بها الأستاذ الجامعي عندنا بالاستشهاد بمقولة علمية لوزير عندنا، بل بحاجة لأن يتمكن الطالب في بلادنا أن يفهم درسه من خطاب وزير أو نقاش مع مسؤول.
في البلاد المتطورة لا يكترث لحديث الوزراء والمسؤولين إلا أصحاب الشأن والمتخصصين فيه، وعندنا في بلادنا يتلقى الشارع بكل أطيافه لكل كلمة بكل شغف واهتمام. ولكن متى تأسست الثقة بقدرات المسؤول، فحينها سينصرف الشارع عنه ولن يعود يكترث بحديث الوزير إلا المتخصصون، لأن الشارع حينها سيكون مطمئناً أنه بأيد أمينة قادرة على تحمل المسؤولية.
لم لا يقوم الإعلام الرسمي ببرنامج حواري مع الوزراء والمسؤولين. برنامج يديره مُحاور ذكي مدرك للوضع القائم، يدعمه طاقم متخصص متفرغ وغير متفرغ. مُحاور فطن موضوعي لا شعبوي ولا نخبوي. محاور سريع الفهم قوي المنطق قادر على الاستفادة من الطاقم العلمي المتخصص والإعلامي الذي يدعمه.
لم لا تكون قرارات الوزارات كقرار عاصفة الحزم؟ بُينت أسبابها وتاريخ معطياتها وأهدافها. وبينت كذلك الخيارات الأخرى وأسباب ترجيح خيار العاصفة. كما بينت خياراتها في تنفيذها. وبعد ذلك استمر زخم الشفافية بالشرح والتفصيل والاستدلال المنطقي للمسيرة والمعوقات والطوارئ والخطط البديلة. حرب المتمردين الحوثيين، ليست بأصعب ولا أكبر أهمية من حرب التنمية الاقتصادية الوطنية.
عاصفة الحزم شاهد على أهمية الشفافية لتحفيز الدعم الشعبي، وكذلك هو النجاح في التنمية الاقتصادية لا يكون إلا بدعم شعبي.