د. محمد عبدالله الخازم
أحد سمات التعليم العالي المعاصرة هو ما يعرف بالحراك الدولي في التعليم العالي أو التعليم العالي العابر للحدود، أو الحراك المعرفي الدولي. بغض النظر عن الفروقات العلمية الدقيقة بين المصطلحات فإن أبرز مكونات هذا الحراك الآتي:-
«دراسة الطلاب خارج حدود بلدانهم، أو ما نسميه بالابتعاث. ودراسة الطلاب ليس مجرد الحصول على الدرجات العلمية كما هو حاصل في ابتعاثنا. بل له جوانب أخرى مثل التبادل الطلابي بين الدول، الدراسة المؤقتة أو التطبيق أو البحث في بلد آخر. المملكة لديها برنامج ذو اتجاه واحد في هذا الشأن ألا وهو الابتعاث للحصول على الدرجات العلمية، وبقية المبادرات فما يحدث فيها هو مجرد جهود فردية أو جهود غير منظمة أو مستدامة. نعم لدينا طلاب أجانب يدرسون في المملكة، وتحديداً من الدول الإسلامية، لكنه ليس مبنياً ضمن إطار مؤسسي لتبادل الطلاب، بحيث نتبادل الطلاب مع الدول التي نبتعث إليها. ولدينا بعض المبادرات في زيارات الطلاب القصيرة، أو الدراسة الاختيارية التي ليس بالضرورة تقود إلى درجة علمية، لكن نؤكد أنها مبادرات فردية ومتواضعة.
«أيضاً يصب في هذا الجانب تبادل أعضاء هيئة التدريس والباحثين وليس مجرد الطلاب. المملكة بحكم حاجتها استقطبت وما زالت الأساتذة من دول كثيرة، وستبقى كذلك لسنوات بحكم الحاجة إليهم. لكن هذا الأمر أيضاً لا يحدث بصيغة تبادلية، وإن حدث فهو في حدود ضيقة تتمثل في بعض مراحل التفرغ العلمي التي يقضيها بعض الأساتذة السعوديين في الخارج. ومرة أخرى الأمر لا يتم وفق إطار مؤسسي واضح.
«الجانب الثاني في موضوع الحراك الدولي للتعليم العالي يتمثل في وجود برامج أكاديمية من دول أخرى، سواء بشكل كامل أو عن طريق (الفرانشيز) بالتعاون مع مؤسسات محلية أو غير ذلك من الصيغ التجارية. المملكة لا ترحب بهذا الجانب ولم تسمح لفروع الجامعات الأجنبية بالمملكة، وحدود تعاون جامعاتنا في هذا الشأن لا يتجاوز التعاون في بناء منهج أكاديمي لبرنامج محدد.
« أخيراً هناك جانب بدأ يبرز في بعض الدول ومنها بعض دول الخليج يتمثل في تأسيس مدن تعليمية تستقطب وتسمح بقيام فروع ومقرات الجامعات العالمية فيها. قطر تعتبر أفضل مثال لذلك، حيث سهلت البنية التحتية لوجود جامعات عالمية معروفة بها. المملكة أضاعت فرص استقطاب الجامعات العالمية المتميزة، واستبدلت ذلك بكليات وجامعات تجارية محلية كثير منها دون المستوى المأمول..
الغريب أن بعض الجامعات السعودية وقبل تأسيس وزارة التعليم العالي التي تحولت إلى حارس البوابة المثبط للعديد من الأفكار المتقدمة في هذا المجال، بدأت بتعاونات دولية متقدمة في وقتها. كما حدث في جامعة الملك سعود التي استعانت باليونسكو وجامعات عالمية كلندن وكلورادو في تأسيس بعض كلياتها وبرامجها.
على مدى ثلاثة عقود تقاعست جامعاتنا وأعيق تعليمنا العالي من الفرص الذهبية للانطلاق نحو العالمية ومن مظاهرها الحراك المعرفي الدولي، المفصل أعلاه. والنتيجة الحتمية كانت وما زالت هي تدوير الفكر المحلي المتواضع الخبرات في كل جامعة سعودية، حتى غدت نسخاً متشابهة ومقلدة أبرز سماتها الانغلاق والتأخر عن ركب المنافسة العالمية...
لست أعلم توجهات وزارة التعليم الجديدة، هل تستمر في نفس الطريق أم يكون لها رأي آخر أكثر انفتاحاً وجرأة على تقبل الأفكار الحديثة والانفتاح على العالم معرفياً. ربما تكون الفرصة مواتية بتحويل برنامج الابتعاث إلى هيئة مستقلة -كما سبق أن طرحت في مقالات سابقة وبأي مسمى يمكن تحديده- تتجاوز مهامها مجرد الابتعاث التقليدي إلى تنمية وتحفيز الحراك أو التبادل المعرفي الدولي بكافة أشكاله وأنماطه ومنها ما ذكر أعلاه...