عمر بن عبدالله المشاري السعدون
لقد امتازت السياسة العقابية في الشريعة الإسلامية بأمور كثيرة، وهي تقوم على أصلين أساسيين ومبدأين عاميين..
المبدأ الأول: العناية والاهتمام بمحاربة الجريمة وإهمال شخصية المجرم، والغرض من هذا المبدأ هو حماية الجماعة من الإجرام.
المبدأ الثاني: العناية بشخصية المجرم مع عدم إهمال محاربة الجريمة، والغرض من هذا الحرص على إصلاح المجرم. والظاهر أن بين هذين المبدأين تضارباً ظاهراً لأن حماية الجماعة من المجرم تقتضي إهمال شأن المجرم، كما أن العناية بشأن المجرم تؤدي إلى إهمال حماية الجماعة، وقد قامت نظرية العقوبة في الشريعة الإسلامية على هذين المبدأين المتضاربين، ولكن الشريعة جمعت بينهما بطريقة تزيل تناقضهما الظاهر، وتسمح بحماية المجتمع من الإجرام في كل الأحوال وبالعناية بشخص المجرم في أكثر الأحوال.
ذلك أن الشريعة أخذت بمبدأ حماية الجماعة على إطلاقه، واستوجبت توفره في كل العقوبات المقررة للجرائم، فكل عقوبة يجب أن تكون بالقدر الذي يكفي لتأديب المجرم على جريمته، فإذا لم يكف التأديب شر المجرم عن الجماعة، أو كانت جماية الجماعة تقتضي استئصال المجرم أو حبسه حتى الموت.
أما مبدأ العناية بشخص المجرم فقد أهملته الشريعة بصفة عامة في الجرائم التي تمس كيان المجتمع، والجرائم من هذا النوع قليلة ومحدودة، وما عدا ذلك من الجرائم ينظر في عقوبته إلى شخصية المجرم، وتستوجب الشريعة أن تكون شخصية الجاني وظروفه وأخلاقه وسيرته محل تقدير القاضي عند الحكم بالعقوبة، وقد قسمت الجرائم بناء على هذين المبدأين:
القسم الأول: الجرائم الماسة بكيان المجتمع ويدخل تحتها فرعان:
الأول: جرائم الحدود التامة وهي: (الزنى، القذف، السرقة، الحرابة، الردة، البغي) وهذه وضعت لها عقوبات مقدرة وليس للقاصي نقضها أو الزيادة أو النقصان فيها.
الثاني: جرائم القصاص والدية وهي: (القتل العمد، القتل شبه العمد، القتل الخطأ، الجرح المتعمد، والجرح الخطأ) وهذه لها عقوبات محددة وهي: القصاص أو الدية في حالة العمد، والدية في حالة الخطأ. ومنعت القاضي من أن ينقصها أو يستبدلها أو يزيد فيها.
القسم الثاني: الجرائم الأخرى: وتشمل كل الجرائم التي لا تدخل في القسم الأول وهي: (جرائم التعزير، وجرائم الحدود غير التامة، وجرائم الحدود التي يدرء فيها الحد، وجرائم القصاص والدية التي يعاقب عليها بعقوبة غير مقدرة فلا قصاص ولا دية فيها) ونظراً لأن خطورة هذا القسم ليست بدرجة القسم الأول فلذا تترك الشريعة للقاضي حرية اختيار العقوبة الملائمة للمجرم، التي تناسب ظروفه وشخصيته.
لقد سبقت وجمعت واحتوت الشريعة الإسلامية كل النظريات الوضعية المقبولة والمتناقضة فيما بينها، التي ظهرت ابتداء من القرن الثامن عشر الميلادي.
فالعقوبات في الشريعة لا يصح أن تزيد عن حاجة الجماعة، كما لا يصح أن تقل عن هذه الحاجة فهي من هذه الوجهة إجراء تقتضيه العدالة والمصلحة معا، وهذا ما رآه «جان جاك روسو» و»بكاريا» و»بنتام» و»عمانويل كانت» مجتمعين.
والعقوبة في الشريعة: تقصد استصلاح الجاني والرحمة به، وهذا ما تتجه إليه «النظرية العلمية الغربية» فجاءت الشريعة سابقة وشاملة لمصلحة المجتمع ولمصلحة الجاني فقد جمعت بين المصلحة العامة والخاصة ووفقت بينها وراعتها ولم تهمل بعضها على حساب بعض كما فعلت النظريات الوضعية. وأهم ما يميز الشريعة الإسلامية في العقاب على القوانين الوضعية هو:
1ـ قوة المشروعية:
الذي يجعل النفوس تذعن والعقول تسلم والقلوب ترضى وتطمئن هو وجود مشروعية للعقاب تتصل بالمشرع الأعلى أحكم الحاكمين وهو الله جل وعلا، وهو الذي خلق ويعرف ما يحتاج هذ الخلق لإصلاحه فلذلك شرع العقوبات المقدرة، فكفى العباد بهذا التشريع وجعلها من اختصاصه (إن الحكم إلا لله) وأمرهم بالإذعان لها. بخلاف القوانين الوضعية التي لم تستطع من خلال النظريات الفلسفية تسويغ تلك المشروعية وتقويتها، وقبولها من المجتمع إلا بعذر مجاراة الواقع والاستجابة للضرورة الاجتماعية.
2ـ التفويض للاجتهاد الفقهي:
فيما عدا العقوبات المقدرة، وفي حدود منطلقات الشريعة ومصادرها ومقاصدها وقواعدها، وذلك لاستيعاب الحياة في جميع أجيالها منذ البعثة النبوية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها مع مراعاة المتغيرات والتمسك بالثوابت.
أما الأنظمة الوضعية نجد أن هناك اتجاهات لتلطيف العقوبة مراعاة للعصر، أو المتغيرات المزعومة برؤيتهم القاصرة، وهذا الاتجاه نجده في الأنظمة الديمقراطية التي تأثرت بالمدرسة الاجتماعية، كما نجد في المقابل وعلى النقيض، فإن العقوبات في الأنظمة الديكتاتورية تتجه لقمع الخصوم والمعارضين وتصفيتهم، فهي في شدة القسوة والشناعة.
3ـ تفريد العقوبة:
ومن محاسن التشريع الإسلامي اعتماده لسياسة تفريد العقوبة، وذلك حين قررت تفويض القضاء في اختيار العقوبات للجرائم التعزيرية، وذلك بما يلائم شخصية المجرم من حيث الخطورة وعدمها وظروفه الاجتماعية والنفسية والأكثر مناسبة لردعه وإصلاحه وإعادته عضواً صالحا في المجتمع مع المحافظة على الثوابت الشرعية وقد سبقت الشريعة في هذا كافة الأنظمة الوضعية التي ارتفعت الأصوات عندهم بضرورة تفريد العقوبة واختيار العقوبة بناء على الظروف الاجتماعية والنفسية لكل مجرم، إلا أن معظم الساسات العاقبية لم تصل إلى ما انتهت إليه الشريعة الإسلامية.