د.محمد الشويعر
1 - حيلة طريفة
قال داود بن الرشيد: قلت للهيثم بن عدي: بأي شيء استحق سعيد بن عثمان أن ولّاه المهدي القضاء، وأنزله منه تلك المنزلة الرفيعة؟ قال: إن خبره في اتصاله بالمهدي طريف، فإنَّ أحببت شرحته لك! قلت: والله قد أحببت ذلك.
قال: أعلم أنه وافى الربيع الحاجب حين أفضت الخلافة إلى المهدي، فقال: استأذن لي على أمير المؤمنين. فقال له الربيع: من أنت؟ وما حاجتك؟ قال: أنا رجل قد رأيتُ لأمير المؤمنين رؤيا صالحة، وقد أحببت أن تذكرني له. فقال له الربيع: يا هذا؛ إن القوم لا يصدفون ما يرونه لأنفسهم، فكيف ما يراه لهم غيرهم! فاحتل بحيلة هي خير لك من هذه. فقال له: إن لم تخبره بمكاني سألت من يوصلني إليه، فأخبرته أني سألتك الإذن عليه فلم تفعل.
فدخل الربيع على المهدي، فقال له: يا أمير المؤمنين؛ إنكم قد أطمعتم الناس في أنفسكم، فقد احتلوا لكم بكل ضرب. قال له: هكذا صنع الملوك. فما ذلك؟
قال: رجل بالباب يزعم أنه قد رأى لأمير المؤمنين رؤيا حسنة، وقد أحب أن يقصها عليه. فقال له المهدي: ويحك يا ربيع! إني والله أرى الرؤيا لنفسي، فلا تصح لي، فكيف إذا ادعاها من لعله قد افتعلها. قال: والله قلت له مثل هذا فلم يقبل. قال: هات الرجل.
فأُدخل إليه سعيد، وكان له رؤية وجمال ومروءة ظاهرة، ولحية عظيمة ولسان، فقال له المهدي: هات، بارك الله عليك! ماذا رأيت؟ قال: رأيت يا أمير المؤمنين آتياً أتاني في منامي فقال لي: أخبر أمير المؤمنين المهدي أنه يعيش ثلاثين سنة في الخلافة، وآية ذلك أنه يرى في ليلته هذه في منامه كأنه يقلب يواقيت؛ ثم يعدها فيجدها ثلاثين ياقوتة؛ كأنها قد وهبت له.
فقال المهدي: ما أحسن ما رأيت! ونحن نمتحن رؤياك في ليلتنا المقبلة على ما أخبرتنا به، فإنَّ كان الأمر على ما ذكرت أعطيناك ما تريد، وإن كان الأمر بخلاف ذلك لم نعاقبك، لعلمنا أن الرؤيا ربما صدقت، وربما اختلفت.
قال له سعيد: يا أمير المؤمنين؛ فما أنا صانع الساعة إذا صرت إلى منزلي وعيالي فأخبرتهم أني كنت عند أمير المؤمنين، ثم رجعت صفراً؟
قال له المهدي: فكيف نعمل؟ قال: يعجل لي أمير المؤمنين ما أحب؛ وأحلف له أني قد صدقت. فأمر له بعشرة آلاف درهم؛ وأمر أن يؤخذ منه كفيل ليحضر من غد ذلك اليوم. فقبض المال، وقيل له: من يكفل بك. فقال له المهدي: أتكفل به؟ فاحمر وخجل، وقال: نعم وكفل به وانصرف.
فلما كان في تلك الليلة رأى المهدي ما ذكره له سعيد حرفاً بحرف، وأصبح سعيد في الباب، واستأذن فأذن له، فلما وقعت عين المهدي عليه قال: أين مصداق ما قلت لنا؟ قال له سعيد: وما رأى أمير المؤمنين؟ قال له المهدي: قد والله رأيت ذلك؟ فقال له سعيد: الله أكبر! فأنجز يا أمير المؤمنين ما وعدتني به. قال له: حباً وكرامة، ثم أمر له بثلاثة آلاف دينار، وعشرة يخوت ثياب وثلاثة مراكب من أنفس دوابه محلاة، فأخذ ذلك وانصرف.
فلحق به الخادم الذي كان قد كفل به، وقال له: سألتك بالله: هل كان لهذه الرؤيا التي ذكرتها من أصل؟ فقال له سعيد: لا والله! قال الخادم: كيف وقد رأى أمير المؤمنين ما ذكرته له؟ قال: هذا مما لا يأبه به أمثالكم، وذلك أني لما ألقيت إليه هذا الكلام خطر بباله، وحدث به نفسه، وشغل به فكره، فساعة نام خيل له ما حل في قبله، وما كان شغل به فكره في المنام.
فبهت الخادم، وتعجب، فقال له سعيد: قد صدقتك، وجعلت صدقي لك مكافأتك على كفالتك؛ فاستر علي. ففعل.
ثم طلبه المهدي لمنادمته، وحظي عنده، وقلده القضاء على عسكره. فلم يزل كذلك حتى مات المهدي!
2 - حيلة وَالٍ
بلغ الرشيد أن موسى بن عيسى، وكان أميراً على مصر من قِبله، عازم على خلعه، فقال: والله لأعزلنّه بأخس من على بابي! وقال ليحيى بن خالد: اطلب لي كاتباً عفيفاً يصلح لعمل مصر، واكتم خبره، فلا يشعر به موسى حتى يفجأه، فقال: قد وجدته، قال: من هو؟ قال: عمر بن مهران.
فكتب له بخطه كتاباً إلى موسى بتسليم العمل إليه، فسار وليس معه غير غلام أسود على بغل استأجره؛ ومعه خرج فيه قميص وطيلسان وخف!
فلما وصل إلى مصر نزل خاناً، فأقام فيه ثلاثة أيَّام يبحث عن أخبار البلد، وعمن فيه من العمل؛ وأخبر من كانوا بجواره في الخان أنه قد ولى مصر؛ واستعمل منهم كاتباً وحاجباً وصاحب شركة، وقلد آخر بيت المال؛ وأمر من تبعه ووثق به أن يدخل معه على موسى، فإذا سمعوا حركة في دار الإمارة قبضوا على الديوان.
فلما أبرم أمره بكر إلى دار الإمارة؛ فأذن موسى للناس إذناً عاماً فدخل في جملتهم ومن اتفق معهم، وموسى جالس في دسته، والقواد بين يديه وكل من قضيت حاجته ينصرف. وعمر جالس، والحاجب ساعة بعد ساعة يسأله عن حاجته، وهو يتغافلُ، حتى خف الناس، فتقدم، وأخرج كتاب الرشيد ودفعه لموسى؛ فقبله ووضعه على رأسه، ثم فتحه فامتقع لونه؛ وقال: السمع والطاعة.
ثم قال: أقرئ أبا حفص السلام، وقل له: كن بموضعك حتى نتخذ لك منزلاً، ونأمر الجند يستقبلونك! قال: أنا عمر بن مهران، وقد أمرني أمير المؤمنين أن أقيمك للناس، وأنصف المظلوم منك، وأنا فاعل ما أمرني به أمير المؤمنين!
فقال له موسى: أنت عمر بن مهران؟! قال: لعن الله فرعون حيث قال: أليس لي ملك مصر؟! واضطرب المجلس. فقبض على الديوان؛ ونزل موسى عن فرشه، وقال: لا إله إلا الله! هكذا تقوم الساعة!
ما ظننت أن أحداً بلغ من الحيلة والحزم ما بلغت؛ تسلمت مني العمل، وأنت في مجلسي. ثم نهض عمر إلى الديوان، ونظر فيه وأمر ونهى وعزل وولي.