د.محمد الشويعر
قال محمد بن عبدالرحمن الهاشمي: كانت أم جعفر بن يحيى تزور أمي؛ وكانت لبيبة من النساء، حازمة فصيحة برزة، يعجبني أن أحدها عند أمي فاستكثر من حديثها، فقلت لها يوماً: يا أم جعفر؛ إن بعض الناس يفضل جعفراً على الفضل، وبعضهم يفضل الفضل على جعفر، فأخبريني. فقالت: ما زلنا نعرف الفضل للفضل.
فقلت: إن أكثر الناس على خلاف هذا. فقالت: سأحدثك واقض أنت - وكان ذلك الذي أردت منها.
قالت: كانا يوماً يلعبان في داري، فدخل أبوهما فدعا بالغداء وأحضرهما، فطعما معه، ثم آنسهما بحديثه وقال لهما: أتلعبان بالشطرنج ؟ فقال جعفر - وكان أجرأهما: نعم! قال؛ فهل لا عبت أخاك بها! قال جعفر: لا. قال: فالعبا بها بين يدي لأرى لمن الغلب فقال جعفر: نعم! وكان الفضل أبصر منه بها، فجيء بالشطرنج، فصعق بينهما، وأقبل عليها جعفر، وأعرض عنها الفضل.
فقال له أبوه: مالك لا تلاعب أخاك، فقال: لا أحب ذلك. فقال جعفر: إنه يرى أنه أعلم بها مني فيأنف من ملاعبتي؛ وأنا ألاعبه مخاطرة.
فقال الفضل: لا أفعل. فقال أبوه: لا عبه وأنا معك. فقال جعفر: رضيت، وأبى الفضل واستعفى أباه فأعفاه.
ثم قالت لي: قد حدثتك فاقضِ، فقلت: قد قضيت بالفضل على أخيه فقالت: لو علمت أنك لا تحسن القضاء لما حكمتك، أفلا ترى أن جعفراً قد سقط أربع سقطات تنزه الفضل عنهن: فسقط حين اعترف على نفسه بأنه يلعب بالشطرنج، وكان أبوه صاحب جِد، وسقط في التزام ملاعبة أخيه، وإظهار الشهوة لغلبه، والتعرض لغضبه، وسقط في طلب المقامرة وإظهار الحرص على مال أخيه. والرابعة قاصمة الظهر حين قال أبوه لأخيه: لاعبه وأنا معك، فقال أخوه: لا، وقال هو: نعم؛ فناصب صفاً فيه أبوه وأخوه.
فقلت: أحسنت والله، وإنك لأقضى من الشعبي! ثم قلت لها: عزمت عليك أخبريني: هل خفي مثل هذا على جعفر وقد فطن له أخوه ؟ فقالت: لولا العزمة لما أخبرتك، إن أباهما لما خرج قلت للفضل خالية به: ما منعك من إدخال السرور على أبيك بملاعبة أخيك ؟ فقال: أمران: أحدهما لو لاعبته لغلبته فأخجلتهُ، والثاني قول أبي: لاعبه وأنا معك؛ فما يسرني أن يكون أبي معي على أخي. ثم خلوت بجعفر فقلت له: يسأل أبوك عن اللعب بالشطرنج فيصمت أخوك وتعترف، وأبوك صاحب جد! فقال: إني سمعت أبي يقول: نعم لهو البال المكدود! وقد علم ما نلقاه من كدّ التعلم والتأدب، ولم آمن أن يكون بلغه أنا نلعبُ بها ولا أن يبادر فينكر، فبادرتُ بالإقرار إشفاقاً على نفسي وعليه؛ وقلت: إن كان توبيخ فديته من المواجهة به.
فقلت له: يا بني؛ فلم تقول ألاعبه مخاطرة ؟ كأنك تقامر أخاك وتستكثر ماله! فقال:كلا، ولكنه يستحسن الدواة التي وهبها لي أمير المؤمنين فعرضتها عليه؛ فأبى قبولها، وطمعت أن يلاعبني فأخاطره عليها، وهو يغلبني فتطيبُ نفسه بأخذها.
فقلت لها: يا أماه؛ ما كانت هذه الدواة ؟ فقالت: إن جعفراً دخل على أمير المؤمنين فرأى بين يديه دواةً من العقيق الأحمر محلاة بالياقوت الأزرق والأصفر، فرآه ينظر إليها فوهبها له، فقلت: إيه.
فقالت: ثم قلت لجعفر: هبك اعتذرت بما سمعتُ؛ فما عذرك من الرضا بمناصبة أبيك حين قال: لاعبه وأنا معك؟ فقلت أنت: نعم، وقال هو: لا. فقال: عرفت أنه غالبي؛ ولو فتر لعبه لتغالبت معه؛ مع ما له من الشرف والسرور بتحيز أبيه إليه.
قال محمد بن عبدالرحمن: فقلت بخٍ بخٍ هذه والله السيادة! ثم قلت لها: يا أماه، أكان منهما من بلغ الحلم ؟ فقالت: يا بني، أين يـُذهبُ بك ؟ أخبرك عن صبيين يلعبان فتقول: أكان منهما من بلغ الحلم! لقد كنا ننهي الصبي إذا بلغ العشر وحضر من يستحي منه أن يبتسم!