د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
أعترف أني لم أستطع الفكاك من سلطة الكتابة عن التعليم والتربية، وإن كانت فضاءاتي فرُغت من سطوتهما، وقد بحثتُ عن الصيد السمين هناك حتى لا احمّل الكلمة ما لا تُطيق، وأفرّغها من معانيها حين تُرصد وتُرصف، وحتى لا أكون تلك المواطنة الخرقاء التي تقارع أهلها في عقر دارهم، إلا أن نشوة الشعور بالقرار المورق البراق، قرار خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز (دمج وزارتي التعليم) هو قرارٌ ولات بعدُ قرار، وكأنه سحابة قادمة تعصُر أعطافها فوق روابي المتعلمين وهم الصيد المُستهدف، فرأيت أن أطلق على هذه المرحلة [غنائم الغواص] وإن كان الغوص بدأ منذ الأزل؛ ولكننا مازلنا ننتظر توزيع الغنائم، ويبدو أن هناك بعض المراكب جاءتها ريح عاصف وطبعت.
واستجاب لي قلمي يقودهُ كيلٌ معتّق من الخبرة التربوية فقررت أن أدلو بدلوي:
- المساحات البيضاء الوحيدة في نظري في منظومة التعليم هي قاعات الدرس فالخطوة الأولى المحافظة عليها حتى لا تكون مسطحات دون تضاريس مجهولة المنتج والنتيجة.
- قضية الجلوس خلف المقعد الدراسي لساعات والاستماع للامام دون حراك قضية لا بد من صياغة شروطها وفك طلاسم الوقت المقدس المسمى بالحصص.
- قضية تصنيف الجودة وليس تطبيقها، وقد كثرت مصانع التربية فضعُف الإنتاج، وانتشرت الماركات المقلّدة، فكانت تربية زجاج البلّور هي الأعلى في تصنيف المجتمع وإن كانت نواتجها أبناء للزينة!
- المحتويات المعرفية بها ومنها نختصر كثيرٌ من الحكايات في مجال التعلُّم، وهي تمثل الدعم الذاتي للمتعلمين، وربما جاز لنا أن نقول: إن فقد الدعم الذاتي المتميز في المحتوى المعرفي عند الطلبة دفع الكثير منهم للتوجه للدعم الاجتماعي الذي اختلفت منابعه وبعضها دون رقابة، فلا بدّ من إطار محكم للمحتويات المعرفية يمنع التسلل خلالها والعبث فيها, وأن تكون في مضامينها أطواق نجاة, ومسارات تقدُّم، تجعل المتعلمين يؤمنون بالقيم والمبادئ الإسلامية, يحيطها أسلوب من التعلّم الأكفأ والأقدر وفي مقابله تعليم أقل, مما يعني أن المحتويات يجب أن تركز على الأساسيات، وألا يُعزل المتعلمين عن واقعهم تحقيقا لمشاركتهم في مفاصل التنمية، إضافة إلى أهمية إقرار التفكير النقدي وجعله حلقة أساس في بناء المحتويات المعرفية، فإن سرق الأضواء فهناك أمل وعمل, وإن توارى في الحجاب فالمعرفة لا تنمو في بيئات مزيفة، وتحتم الحاجة تصميم محتويات معرفية تحتكم للعقل وتنأى عن التعصب للتراث المجرد، وأن يقدم الموروث فيكون محفزاً للإبداع والتألق ومنجزاً واقعياً يعج بالفضائل الخارقة لتشكيل نطاقات من المناعة الحقيقة وليست المصنوعة، وزرع السلام الحقيقي في أعماق النفس لدى المتعلمين، فاجترار الحقائق من سابق إلى لاحق لا تُنبت كلأ ولا توقد قبساً إذا لم يكن هناك معامل لاكتشاف الحلقة الأضعف في سلسلة البناء ومن ثمّ إصلاحها.
- ومن الإصلاح تكشيف قنوات التعليم الموجودة، فهناك لجان أسِنت، ومجالس استشارية لا تُستشار، وإدارات تترقب طارقاً يطرق بليل، ودوائر تتنازع السلطة، وأجهزة ترهّلت وصدأت وضعُف منتجُها، كل ذلك شاهد على هياكل شاخت وهرُمت، ولكي يصبح التعليم حصاداً نضراً من الأهمية أن تُزال تلك الأعشاب الغريبة التي تشارك المتعلمين أقواتهم, وأن تُربط خرائط التعليم وقنواته بما يتحقق للمتعلمين داخل قاعات الدرس فحسب، وما دون ذلك فهي أرائك صُنعت في زمنٍ ضعف فيه الطالب والمطلوب، فالفجوات الرغوية في أي سلسلة تنظيمية تكون حتماً مدخلاً يُفضي لهشاشة البناء والمُخرج.
- والقضية الأولى وإن جعلتها الأخيرة هي صناعة المعلم، أطرحها وقد كفاني وزير التعليم عناء تفصيلها حيث قدِم معاليه بها ولها، فقد أعلن معاليه في أحاديثه الأولى أنه جاء ليصيد في مواضع الصيد لا سواها، ولخّص سياسات واختصر أساسات، فتحدّث عن المعلمين وأن أثرهم يعادل أضعاف الأدوات الأخرى المحيطة بعمليات التعلُّم، وأنهم أساتذة يجب أن تقام لهم مظلات التخصص والتخصيص، ولا بد لهم من رعاية ضافية، وأن تُصنع لهم أسباب التميز بعمق التكوين المعرفي ووجود الحوافز التي تحركهم نحو الاتجاهات المشرقة، وأن تكون مهنة التعليم تاجٌ يتنازعون ارتداءه، وأنهم حتماً سيملكون القدرة على التحول إذا ما كانت لديهم الرغبة والاتجاه لإحداث البهجة والمتعة لدى المتعلمين، وفي مجال اختيار المعلمين لي دلو أخرى؛ بان تُصنع الرغبات نحو المهنة في مصانع التعليم العام وذلك بتخصيص معاهد للإعداد والتهيئة أو ثانويات متخصصة يُختار لها الأميز من الطلبة، وتكون معايير القبول فيها عالية تتصدرها الرغبة، وتوجه لها الإمكانات الداعمة، وينقل المعرفة فيها من يمتلكون الكفايات العالية في مكونات التعليم وأدواته، وتكون هذه المدارس قليلة الأعداد كبيرة الإعداد والعُدة، ومن ثم تُتمم تلك الصناعة في الكليات التربوية في الجامعات التي تكون الحاضن والموجه والمقوّم لذلك المعلم القادم ليكون ناقلاً حصيفاً للمعرفة في أروقة المدارس. أما كوادر التعليم عامة والقيادات الصانعة للموقف والقرار فثمة اشتراط من صنع الله سبحانه وتعالى يكون مفتتحاً للاختيار [وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] (البقرة: 282)، فالتقوى تنمي القيم والقيم تمنح القوة والأمانة، ويردف ذلك بناء منظومة إجراءات معلنة ومحررة كتابياً تتضمن معايير التقييم وأُسس الترشيح والاختيار والترقية لتحقيق العدالة ودعم منطلقات الرضا الوظيفي.
بوح النهاية
يقول علي ابن أبي طالب كرّم الله وجهه (أيها الحق لم تترك لي صاحباً).