د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
من تجلّيات الضوء لكرسي بحث صحيفة الجزيرة للدراسات اللغوية في جامعة الأميرة نورة بنت عبد الرحمن انطلاق ملتقى (اللغة العربية والطفل.. تحديات وتجارب)، وذلك في الثامن والعشرين من شهر ربيع الآخر من هذا العام، وقد منحته الجامعة مساحات ليصهل فيها.
ومن خلال اطلاعي على مفاصل الملتقى وصياغاته وجدتُ في محتواه منعطفات آمنة، تغوص في عمق المطلب اللغوي وواقعه الآن، وهو بذرة من بذور نامية، شقت التربة فاهتزت وربت, واستثمار واعٍ للفكر الداعم في ذات الفضاءات. أما كرسي البحث فهو كيان راسخ رافد
للغة الضاد، يتحرك صوب أفق جديد مُضاء بحضور فكري وافر في معجزات اللغة وفرائدها؛ يحاكي المسؤولية تجاهها في حياضها، ويقرع لها ما يوقظ العقل والوجدان.
وسوف أقف عند بعض فرائد الملتقى وتوصياته، وأضيف بعضاً من جهد متخصص، وخبرة تربوية معتّقة؛ ذلك لأن الحكم على الشيء فرع من تصوره، وحيث لمستُ توجهاً عالياً في توصيات الملتقى لدعم النشء في دور العلم بمواد قرائية نافذة، وتحويل المنتج القرائي إلى برمجيات إلكترونية، تناسب واقع العصر، وبها تتحقق صناعة طوق النجاة للمكتبات في المدارس وهي خاوية على عروشها.
ولي في التكنولوجيا القرائية وقفة؛ فأنا لست مع قرطسة الواقع ثم الحكم عليه؛ فالمعجم المتوافر تقنياً أمام الأطفال في واقع اليوم - على سبيل المثال - به قدر كبير من الانغلاق، وصعوبة الفهم للمعنى والدلالة، كما تشوبه ركاكة في التركيب، وتبديل وإنزال بعض الألفاظ في غير مواضعها.
وقد يُفاجَأ الطفل بتوليد بعض المفردات تعسفاً للإتمام فحسب؛ فلا بدّ من مراجعة وتمحيص.
كما أنه لا يمكن للأطفال أن يتآلفوا مع الدلالات الثقافية الحديثة إلا إذا كانت بيئتهم التقنية وافرة ومحفزة؛ فكما نعلم أن الواقع جعل لمفردات الثقافة في تكنولوجيا المعلومات مسميات حديثة, فآثرها كصناعة، ثم إن اللسان العربي قائم على صوت الحرف, وتحكمهُ قواعد اللغة، وبساط الأطفال أرض ضحلة في واقعهم؛ فالقواعد في لغة التقنية تنتج ثم تستخدم، أما قواعد النحو فتستخدم ثم تستخلص منها القاعدة، والأخيرة أوضح عن أطفال يسمعون العربية منذ ولادتهم من أفواه المحيطين، وإن سرت لوثة الإفرنج فيها كما سرى لعاب الأفاعي في مسيل فُرات؛
فجاءت كثوب ضم سبعين رقعة مشكلة الألوان مختلفات.
وأدلفُ إلى (أخرى تُحبونها) عندما دعا الملتقى في توصياته وزارة التعليم لإعادة النظر في المقررات التدريسية للغة العربية (لغتي.. لغتنا الخالدة)، وأن يستند في التبديل والإبدال إلى الدراسات حولها.
وأضيفُ تبريراً للتوصية بأنه لا يمكن أن تصبح الأوهام واقعاً دلالياً إلا إذا ظهرت الكلمات مشابهة للأشياء؛ حيث يقرنُها فكر الطفل عندما تكون علامات مرئية تشير إلى كلمات, أو تحيط بواقع ممارس؛ لأن واقع المقررات الحديثة واقعٌ يخلو من الشبه البيئي والمجتمعي، ومن الخيال النامي المؤصل للقراءة الناقدة الإبداعية.
وحتى تتحوّل تلك المقررات إلى بيوت أكثر اتساعاً بدلاً من ضيق التصحر, وبُعد المشاهدة التي تغلفها إلا من نزر يسير من المقتطفات، فلا بدّ من حزم التوصية وإحاطتها بالعنق..
وقضية أخرى في المقررات التدريسية المترجمة حيث تربّعت بعد دخولها المُبهج في مجالنا التربوي، ولكن مرق خلالها شيء مما داخل اللغة، فعصرها؛ وبرزت المقروئية الضعيفة في متنها، والمختلة في سياقها، وكان حرياً أن تستعين الجهات المنتجة بصديق متخصص يسمع ويرى..
كما أضاءت لي حزمة من التوصيات فاصل إضافة فيما وُجّه للنشاط القرائي, والكتابة الأدبية لمن يعشق التراث المكتوب، ويشتم عبقه، وذلك بأن يتبنى كرسي البحث في دوائره المكتنزة
مشروع تعصير التراث اللغوي المكتوب، واختزال متونه في قوالب معلوماتية موجزة دون الإخلال بالمعنى؛ ليستفيض إلى الناشئة إبداعاً يستلهمونه وحاضراً جلياً يتمثّلونه.. ويحدوني الواقع إلى التفاؤل بأن للفكرة مؤيدين، يتخيلون واقع تراث مختلف عما لا يراه أو يرتاده سوى المتخصصين، ولأن كرسي بحث الدراسات اللغوية كما أراه قد هنّدس خرائط لحفز اللغة, وتحفيز أهلها وإن كان فتياً، فإن استدعاء التراث وفق قوالب عصرية ليس منه ببعيد.
ولعلّ الفكرة تنضج، وتجعلنا نستقبل مراكب جديدة من الدرر اللغوية.
وبمنظور استشرافي عام، فإن ملتقيات اللغة وهي تتربع على كرسي الصحافة، يحيطها بوهجه ويجلوها، تترقب القادم الجميل الذي يحمل الإعلان بأن اللغة صوت هويتنا وكتابها المبين, وأن في الحدب عليها قوة، واسترداد ملامح مُثلى وسط الهويات المصنوعة، وأن احتضان منبر الصحافة لبوح اللغة مشروع التصق بالذاكرة بكل تفاصيله وتفاصيلها.. كل ذلك يجعلنا نتذكر أن التاريخ علَّمنا أنّ الحضارات هي من تعكس بريقها على محيط أصحابها وألسنتهم, وصواب نطقهم، وعلّمنا أيضاً أن العربية وما تصوغه من فرائد هي من عكست بريقها على حضارتنا, وتلك معجزة لغة الضاد التي هيأت لكتاب الله أن تُدرَك معانيه ومراميه وبلاغته.
شكراً لمؤسسة الجزيرة الصحفية، وشكراً لكرسي بحثها للدراسات اللغوية، وشكراً لجامعة الأميرة نورة.. فالحقيقة أنّ الفُصحى تُحبُّكم.
بوح للعربية:
عشقتُ لبانة في القلب تُطرى
كما تُطري الملوكَ حُلى القصيد
وألفيتُ القوافي في هواها
تُسابقني لتهديها جديدي
هي المعشوقة الأولى لقيس
وصاحبة المقام لدى لبيد
بها ناجى المهلهل دار سُلمى
وما وجدت ظلوم من الوليد
وأنشد صاحب النيلين فيها
وأنشأ صاحب العقد الفريد