محمد أبا الخيل
العمل كمنتج إنساني هو أكبر مكون للنشاط الاقتصادي في الدول المتقدمة حضارياً، وحيث يمثل العمل أحد مكونات التكلفة في العملية الإنتاجية فيخضع لمعايير الجدوى الأربعة التي تتمثل في الكفاءة والوفرة والتنافسية والانضباط، وهذا ما يجعل العمل يتوفر للمنظمات الإنتاجية من خلال سوق يعرف بسوق العمل، وكأي سوق آخر لا بد من توفر خصائص معينة للسوق ليكون التبادل فيه عادلاً بين البائع والمشتري، ومن أهم تلك الخصائص، قلة القيود المفروضة على العملية التبادلية للمنفعة، واستقرار العرض والطلب النسبي بحيث لا يمثل التفاوت فرصة لخلل الأسعار، ومحدودية التفاوت في جودة المعروض، ومعيارية التعاقد.
وبنظرة متجردة لسوق العمل السعودي، نجد أن خصائص السوق التي تضمن عدالة التبادل غير جيدة في المجمل وهو ما يدعو الى تدخل عاجل لهيكلة سوق العمل.
وضعت وزارة العمل ضمن إستراتيجيتها التي أقرها مجلس الوزراء بتاريخ 5-8-1430هـ ثلاثة أهداف مرحلية قصيرة المدى (سنتان) ومتوسطة المدى (3 سنوات) وطويلة المدى
(عشرون سنة)، وقد جعلت هيكلة سوق العمل ضمن الهدف المرحلي طويل المدى. وبمراجعة الأهداف الاستراتيجية الثلاثة، نجد أن الهدف الأول كان يهدف للسيطرة على البطالة، حيث اعتمدت الاستراتيجية المذكورة تقدير البطالة بقياس نسبة المواطنين القادرين على العمل خارج قوة العمل وهو ما بلغ في عام 1422هـ (65 %) ومن ثم استثناء غير النشطين في البحث عن عمل خلال أسبوع الإسناد (جمع البيانات). وهذا الأسلوب قديم وغير معبر في قياس البطالة حيث يبرز البطالة بحجم أكبر مما هي عليه، وأما الهدف المرحلي المتوسط فقد كان يهدف لتخفيض معدل البطالة، وخلال السنوات الخمس منذ إطلاق تنفيذ الإستراتيجية تضاربت الأرقام حول نسبة البطالة بصورة مثيرة للاستغراب مما يقود للظن بأن آليات قياس البطالة غير معيارية أو أن السوق يعاني من خلل في العرض والطلب، لذا ليس هناك ما يثبت تحقيق الهدف إذا كانت منطلقاته متحركة، الأمر الآخر أن تطبيق برنامج (حافز) دفع بأعداد كبيرة ممن كانوا خارج قوة العمل طلباً لمخصص حافز وليس طلباً للعمل مما رفع حجم نسبة البطالة. وأما ما يتعلق بالهدف طويل المدى والذي يهدف لتنظيم سوق العمل وزيارة كفاءة العامل السعودي، فهو هدف طويل المدى من الصعب قياس أثره في الواقع.
لم يعد يخفى على أحد الخلل الذي حدث في سوق العمل خلال بداية تطبيق إستراتيجية التوظيف السعودية المشار إليها، فخصائص السوق تأثرت بشكل كبير، حيث كثرة القيود في السوق وأصبحت عملية الالتزام بمتطلبات وزارة العمل عبئاً إدارياً لكثير من المؤسسات وخصوصاً المؤسسات الصغيرة التي أثقلت كواهلها بتكاليف معيقة للنجاح والنمو، كما أن العرض والطلب تعرض في السوق لخلل كبير بتقييد الاستقدام، مما رفع أسعار العمالة الأجنبية على وجه الخصوص وحقق هدراً اقتصادياً لصالح تلك العمالة، وهو ما رفع تحويلات العمالة للخارج خلال الفترة بنسبة تجاوزت (70 %) حسب التقديرات غير الرسمية وهنا تضررت المؤسسة السعودية بصورة عامة، في حين لم يحقق توظيف السعوديين نجاحًا مماثلاً بل إنه ازداد التوظيف الوهمي لتحقيق نسب السعودة المطلوبة فتدنت نسبة متوسط أجور السعوديين، وذلك بتأثير التوظيف بالحد الأدنى. كما أن الندرة النسبية للعمالة المؤهلة نتيجة حكر الاستقدام على مؤسسات الاستقدام الكبيرة، جعل التفاوت كبيراً في جودة المعروض، فأصبح صاحب العمل يقبل بجودة عمل أقل نتيجة لصعوبة الحصول على جودة أفضل وهو ما سيؤثر على جودة العملية الإنتاجية للخدمات والسلع.
واقع سوق العمل في المملكة لا يحتمل التأخير لإعادة التوازن له، وكان على وزارة العمل أن تجعل هدف تنظيم سوق العمل من الأولويات، فبدون سوق عمل مستقر ومنظم لا يمكن أن تسيطر على البطالة ولا يمكن تحقيق سعودة فعلية. ولا يمكن أن تدعم اقتصاداً إنتاجياً فاعلاً، نعم هناك حاجة لمعالجة البطالة ولكن يجب أن تكون معالجة لأسباب البطالة وليس لمظاهرها، وهو ما سوف أتحدث عنه في مقال لاحق إن شاء الله.