د. محمد بن فهد بن عبدالعزيز الفريح
قد كنتُ وضعتُ القلم بعد كتابة مقال طويل عن شيخنا رحمه الله، وأبى القلم إلا أن يرجع ثانية! فما زال في النفس خلجات، وقصص أحكيها، ووقائع أرويها، ولكن (هل تُرجع الأحلام ما كُحِلتْ به المقل)؟!
أكثر من مرة يقول: سامحني إذا جئت ولم تجدني! فها أنا أسامحك إذ أيقنتُ بفقدك! فلن أجدك في أي مكان على ظهر الأرض، وحالي كما قيل:
قدْ يقتُلُ الحُزنُ مَنْ أحبابهُ بَعُدوا
عنه فكيفَ بمنْ أحبابُهُ فُقِدوا
رحم الله الشيخ سعد الحصين رحمة واسعة فقد فُقِد!
وأعظم الله أجره، وضاعف مثوبته فقد كان عطوفاً رحيماً سهلاً هيناً حليماً كريماً زاهداً قنوعاً مربياً شجاعاً مقداماً، ناصحاً، صاحب رأي، دقيق الملاحظة، كثير التغافل، أمّاراً بالمعروف، نهَّاءً عن المنكر، لا يهاب الموت وقد استعد له، مشتاقاً للقاء ربه، عارفاً حقيقة الحياة.
قلَّ أن أُقدِم على أمر ذي بال إلا أخذتُ مشورته، ولزمت نصيحته، فحمدتُ العاقبة.
وقلَّ أن أدعوه لزيارة مريض إلا وبادر بزيارته وإن لم يعرفه، ولربما وضع يده على المريض أحياناً فرقاه بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم يسلي المريض بكلام وددتُ أن المرضى كلهم يسمعون كلامه، أذكر مرة زرنا رجلا قد بُتِرت بعض رِجْله، فسلم عليه الشيخ سعد رحمه الله وقبّل رأسه، وكان مما قال له: عوضك الله خيراً، وتعلم الله يجعلك في الجنة ووالديك: أن الله إذا أحب عبداً ابتلاه، وأَخَذَ منه شيئاً عزيزاً؛ ليعوضه في الآخرة ويكفّر عن سيئاته، التي لو علم حاجته إليها يوم القيامة لتمنى أن تذهب أعضاؤه طمعاً في ذلك الأجر الذي لا يناله إلا المحتسب من أمثالك بإذن الله، وليس لدى المؤمن بقضاء الله وقدره إلا الصبر والرضا، فمن لم يصبر لم يعوض ما فات، ولم يستحق المثوبة والأجر، وبفضل الله ورحمته أن بعضك قد سبقتك إلى روضة من رياض الجنة.
ومرة زرنا مريضاً قد اكتوى من عرق النسا، فكان مما قال الشيخ رحمه الله له: أبشر فقد جمع الله لك أجر الداء والدواء.
سألت الشيخ في أوائل معرفتي به: كم عندكم من الولد؟ فقال: طارق، وياسر، ثم قال: وأظن أن كفالة اليتيم أعظم أجراً من الولد، فلو لم يأت لي ذرية لاكتفيتُ بيتيم أقوم عليه! ومع ذلك فقد مات الشيخ ومازال في منزله يتيم يتقلَّب منذ سنين تحت نفقة الشيخ وكنفه، ورعايته.
وكان الشيخ يعامله كأنه أحد أحفاده، وكم من مرة رأيت الشيخ يقبل يده، ويقول له: هلا بحبيبي! بل لقد حدثني الشيخ عنه قائلا: قد قال لي مرة: أنت يا بابا سعد إذا تعمدتُ الإزعاج أو سَكْبَ شيء لا تعاتبني فضلاً أن تضربني، بخلاف بعض الآباء مع أولادهم!!
كان لطيفاً للغاية فمما أذكر أني دائم الاتصال عليه يومياً، خاصة آخر عصر الجمعة، وأقول له: لقد اتصلتُ بكم شيخنا لأكسب دعاءكم، ومرة شُغِلْتُ عصر جمعة فلم أتمكن أن اتصل به، فلما اتصلت به صباح الغد قال: لم تتصل عليَّ أمس؟ ومع ذلك فلم أنس إذ خصصتك بدعاء آخر عصر الجمعة!
قضى الخدن نِعم الخدن في كل حالة
قضى طاهر الأردان عف الموسد
قضى من على حرب الزمان وسلمه
شمائله كانت شمائل سؤدد
فتى لم يكن في قوله وفعاله
وباديه والخافي سوى كل جيد
كان الشيخ يوصيني بالتعليم والتدريس مذ عرفته إلى أن توفي، ويقول: التدريس من أعظم أبواب الدعوة إلى الله، فلا تتركه أبداً.
وكانت الدعوة إلى الله وإفراده بالعبادة همه وشغله الشاغل، حتى إنه كان يختم رسائله الخاصة والعامة بعبارة (الدعوة إلى الله على منهاج النبوة) وقد يختمها بعبارة (تعاوناً على البر والتقوى).
ولما أعفي الدكتور غازي القصيبي رحمه الله من إحدى الوزارات وجُعل سفيراً، قال رداً على أحدهم حين طعن فيه بأنه كان يطمح للمناصب: لقد بلغتُ أعلى منصب يمكن لأمثالي بلوغه، فكتب الشيخ سعد رحمه الله إلى الدكتور غازي خطاباً بأنه بقي منصب أعلى وأهم ويمكنك بلوغه ولم تبلغه! وهذا المنصب هو منصب الدعوة إلى الله على بصيرة، التي هي وظيفة الرسل عليهم الصلاة والسلام.
قال الشيخ رحمه الله محدثاً عن نفسه: (ركّزت على إفراد الله بالدّعاء، ومحاربة الابتداع في الدّين، وشرّه: دعاء غير الله معه (مَنْ سُمِّيَتْ بأسمائهم أوثان المقامات والمزارات والمشاهد والمراقد والأضرحة بخاصّة)، وهو الشرك الأكبر منذ قوم نوح كما في صحيح البخاري وتفسير ابن جرير رحمهما الله عن تفسير ابن عبّاس رضي الله عنهما لقول الله تعالى عن أوثان قوم نوح: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا}، قال: أولئك أسماء رجال صالحين فلما ماتوا أوحى الشّيطان إلى من بعدهم أن ابنوا في مجالسهم أنصاباً.
وهذه هي سنّة الله ورسله ورسالاته في كلّ زمان ومكان: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ}، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}، وانشغل أكثر الدّعاة وكلّ الجماعات والأحزاب الدّينيّة بما دونه فخالفوا شرع الله).
كان رحمه الله ذاكراً نعم الله عليه، دائم الحمد له سبحانه، وكثيراً ما يردد: (كل ما يأتي من الله فهو خير يحتاج إلى شكر، لكن الكلام على ما يأتي منَّا الله يتوب علينا).
كان دائماً يعترف بنقصه وضعفه ويتبرأ من حوله وقوته إلى ربه كتب في أحد مقالاته ما نصه: (اختار الله لي فاخترت لنفسي محاولة قول الحق ولو على نفسي أو أهلي أو قومي حتى لامَني مرة أحد المشايخ على كثرة اعترافي العلني بنقائصي، خشية منه أن أقع في الكفر بنعمة الله تعالى عليّ وهي لا تُحْصى رغم نقصي وقلة حيلتي وتقصيري).
من مقولاته: (لم أُحمِّل مسلماً إثماً، ولم أدْعُ الله أن ينتقم لي منه إذا اعتدى عليّ بقول أو فعل، لعلّ الله أن يعفو عن نقصي وتقصيري في أداء حقّه عليّ بالشكر والذّكر وحسن العبادة).
كان خفيف الظل حاضر الطرفة حدثني أنه خرج من وزارة المعارف بعد نهاية الدوام، وصادف وقت الخروج صاحباً له ممن يعمل بالوزارة فدعاه الشيخ ليتناول معه الغداء، فاعتذر المدعو بحجة أنه يتناول الغداء مع والدته، فقال له الشيخ مازحاً: الوحدة خيرٌ لها من رفيق السوء!!
من لطائفه أنه عزمنا أحد الفضلاء على الإفطار وكان مما قدمه وجبة فيها زعفران فجعلتُ آكل منها وأُخرِج الزعفران الذي فيها، فالتفت إلي الشيخ رحمه الله وقال: لِم لا تأكل ما في صحنك؟ فقلت: قد أكلته ما عدا هذا الزعفران، فلست عليه بحريص، فقال الشيخ: وطِّن نفسك الله يعينك! الجنة ترابها الزعفران، أو تريد جنة ما فيها زعفران!!
طلب مني الشيخ مرة حاجة فقلتُ: لعلك يا شيخنا تذكرني بها إذا رجعتُ، فقال الشيخ: أبشر، ذكِّرْني أذكرك!!
كتب الشيخ رحمه الله في كتابه المفيد (سيرة داع إلى الله على منهاج النبوة ص31 ) ما نصه: (بعضهم استنكر الدراجة الهوائية وسُمِّيت (حصان إبليس) ووقاني الله شرَّها فلو صُغِّر أول اسمها لشاركني في الاسم، ولربما ظنَّ ظانٌّ أن ذلك سبب حرصي على امتلاكها واستعمالها مدة ثلاثين سنة قبل أن تضيق الطرقات بالسيارات، وكنت أتنقل بها بين المنزل والعمل حتى آخر أيامي في وزارة المعارف مديراً عاماً للتعليم الثانوي.
وكان وزير المعارف د.عبدالعزيز الخويطر (وهو آخر وخير من عملت معه فيها ديناً وخُلُقاً وسمتاً وعدلاً، وكان وحده رمز الاقتصاد في مجتمع الإسراف) كان يسألني كلما قابلته في الوزارة: (وين الكَدْلَك؟). يعني الدراجة!
حدثني الأستاذ الوقور والشاعر النابغة أبو محمد عبد الله السلوم البهلال غفر الله له أنه لما طَلَبَ أن يكون عمله في الإدارة بدلاً من مباشرة الطلبة بالتدريس صدر توجيهه إلى ثانوية اليرموك الشاملة فذهب إليها، ولما دخلها وجد رجلاً يكنس مقدمة المدرسة، فلما وصل إلى إدارة المدرسة سأل عن المسؤول عنها فأُخْبِر أنه الشيخ سعد الحصين، فقال: أين أجده؟ فقيل له: هو الرجل الذي يكنس مقدمة المدرسة!!
وكان عمل الشيخ سعد رحمه الله حينها مديراً عاماً للتعليم الثانوي بالوزارة! ومع ذلك لم يمنعه من أن يباشر تنظيف المدرسة بيده لا بمجرد إشرافه.
وكان يذهب كثيراً إلى تلك المدرسة بالدراجة! فلما سئل عن ذلك، أجاب: حتى لا يكون في أنفس الطلبة الذين لا يستطيعون المجيء بالسيارة حرج في أن يأتوا بالدراجة! وأن الأمر أسهل مما يتصور.
كان الشيخ رحمه الله ذا قلم سيال، حباه الله جمالاً في الأسلوب، وحسناً في العرض، وكان يجيد ربط المناسبات في مقال واحد، فمرة لما طُلِب منه أن يكتب عن عمه الشيخ عبدالعزيز الحصين رحمه الله تلميذ الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله كتب مقالاً أودعه درراً وختمه بخاتمة هذا نصها: (ويطيب لي أن أتذكّر وأذكّر غيري أنّ الله قدّر لي شرعاً وكوناً أن أسير على خطى الجدّ العمّ رحمه الله فأختار الدعوة إلى إفراد الله بالدعاء وغيره من العبادات، والنّهي عن إشراك المخلوق مع الخالق في ذلك، وقدّر الله لي أن يكون مقرّ عملي مملكة الهاشميّين الوحيدة الباقية، وأقام الجدّ العمّ رحمه الله في وفادته إلى مكّةالمباركة (وقت الهاشميين) عشرين يوماً وأقمت في عمّان وما حولها من بلاد الشام أكثر من عشرين سنة).
كان رحمه الله لا يلقي بالاً للدنيا حتى أن بعضهم إذا رآه في المسجد قصده ليتصدق عليه! قال الشيخ رحمه الله:(وكنتُ ألبس كعادتي ثياباً متواضعة (وفي نظر اللبنانيّين العاديّين أكثر ضَعَةً فتصدّق عليّ أحدهم بألف ليرة - ريالين ونصف - وبعدها بأسبوع أو أسبوعين تصدّق عليّ آخر بمثلها لا حرمهما الله أجر النّيّة ولا العمل)، واستوقفني مرّة أمريكي نَزِل في نيويورك ليسألني: هل أنا قسيس من طائفة jesuit؟ فقلت: لا، أنا مسلم، وسألته: لِمَ ظننْتني مِنْ هذه الطائفة بالذّات؟ فقال: لتواضع مَلْبَسِك).
مضى طاهرَ الأثوابِ لم تبقَ روضةٌ
غداةً ثوى إلا اشتهتْ أنَّها قبرُ
لا أريد الإطالة وبإذن الله أني عامل على ترجمة لشيخنا رحمه الله تسرُّ محبيه.
وما يمر يوم من وفاته إلى لحظة كتابة هذا المقال إلا وترحمتُ عليه قائماً أو قاعداً أو ساجداً، ولا أدري بم سخرني الله له ! فكم من مشايخي الكُثر الذين ماتوا وحزنتُ على فراقهم، ولكن حزني على الشيخ سعد رحمه الله مختلف فقد ظل الدمع يأخذ نصيبه كلما أراد! فقد دمعت عيني عليه ما لم تدمعه على أحد قبله إلا على شيخنا الإمام عبدالعزيز بن باز رحمه الله.
خَلعتُ ثوبَ اصطِبارٍ كانَ يَستُرنُي
وبانَ كِذبُ ادِعائي أنَّني جَلِد
سامحك الله شيخنا العزيز وعفا عنك، وغفر لك وجمعنا بك، فقد كنت أُنْساً، يفيض حباً وسعادة وخيراً ورأياً وأدباً، أسأل الله أن يأجُرنا جميعاً في فقده، ويخلف علينا خيراً.
طوَى الجزيرةَ حتى جاءَني خبرٌ
فزِعْتُ فيه بآمالي إلى الكذِبِ
حتى إذا لم يدَعْ لي صدْقُه أمَلاً
شرِقْتُ بالدمعِ حتى كادَ يشرَقُ بي