لما رأيتُ شيخنا رحمه الله في 13-2-1436هـ قد لزمه جهاز الأكسجين ضاق صدري, ففطن لذلك فأراد تسليتي بقوله: جهاز الأكسجين هذا مكتوب عليه باللغة الإنجليزية (حياة جديدة)! فما ودك أن آخذ حياة جديدة!
كان سماحة الشيخ عبدالله بن حميد رحمه الله يحب الشيخ سعد ويحثه بقوله: (اكتب يا شيخ سعد فإن لمقالاتك نفعاً كبيراً) فسألتُ الشيخ أين كنت تنشر مقالاتك في ذلك الوقت؟ قال: في مجلة الدعوة ما بين عام 1397 إلى 1399هـ.
وكان بعض ما كتبه تمت دراسته واعتماده, فكان مما نبه عليه في تلك المقالات: قضية الأغوات في الحرمين, وأنه لا داعي لاستقبال أحد منهم من الخارج, بل يُكتفى بالموجودين جزاهم الله خيراً حتى يتوفاهم الله.
كان شيخنا رحمه الله محل التقدير والإجلال من العلماء والأمراء والوزراء: كان الشيخ حمود التويجري رحمه الله يُجلّه غاية الإجلال حتى قال لي الشيخ سعد: الشيخ حمود يعطيني أكثر مما أستحق.
أذكر مرة أني نسقتُ مع الشيخ سعد الحصين غفر الله له بأن يلقي محاضرة في مسجدي مع مجموعة من علمائنا فلما قرب الموعد فإذا بالشيخ سعد في الطائف فقلت: من يحل محلكم وقد تم الإعلان فقال: من ترى؟ قلت: أحد هذين الشيخين, فقال: من هما؟ فقلت: الشيخ عبد الله بن عقيل أو الشيخ فهد الزكري, فقال: ونعم بهما, لعلنا نبدأ بالشيخ عبدالله لكونه بالرياض سأكلمه الآن، فاتصل الشيخ سعد بالشيخ عبدالله فوافق.
كان الشيخ عبد الله بن عقيل يكن المودة والمحبة لشيخنا رحمهما الله، فقد سمعت الشيخ عبد الله أكثر من مرة وفي غير مكان يقول للشيخ سعد بعد أن يدعو الشيخ سعد للشيخ عبد الله: أنت يا شيخ سعد مجاب الدعوة, أدعو لنا, ومرة رأيتُ في إحدى الدور الخيرية خطاباً من الشيخ عبد الله, وفيه (هذا التبرع بناء على ما اطلعت عليه من تزكية الشيخ سعد الحصين لكم).
وأما سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله وعلاقة الشيخ سعد معه, فلا يمكن حصرها بمقال, ويكفيك أن تعلم أيها القارئ الكريم أن الشيخ ابن باز هو الذي أصر على الشيخ سعد في أن يتولى الدعوة في البلاد المباركة (الشام).
وكان الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله إذا جلس مع الشيخ سعد غفر الله له أخرج قلماً ليقيد ما يسمعه منه من فوائد، وتنبيهات.
أما علاقته مع العلامة عبدالله الغديان رحمه الله فقديمة جداً قبل خمسين سنة تقريباً فحين ذهب الشيخ عبدالله للعلاج في بريطانيا من حسن الموافقة كان الشيخ سعد هناك وهو الذي تولى الترجمة بين الشيخ عبدالله وبين الأطباء, وكان الشيخ عبدالله يتعاهد الشيخ سعد فمرة أهدى إليه كتاب (بداية المجتهد), وبعد ثلاثين سنة من الهدية أهداه لي الشيخ سعد رحمه الله.
قال لي الشيخ عبدالله الغديان رحمه الله: (لقد أُوتي الشيخ صالح والشيخ سعد الحصين ذكاء مفرطاً وفراسة لا يعرفها أكثر الناس عنهما, وكانا لا يظهران ذلك, ولو انصرفا للعلم انصرافاً كلياً لما فاقهما أحد بعد توفيق الله).
قال لي معالي الشيخ محمد العبودي غفر الله له عن الشيخ سعد: (الرجل عجيب وهو لا يقصد إلا الخير ليس له هدف بأحد, وأجمل ما فيه أنه لا يترك شاردة ولا واردة إلا ويعلق عليها، ويبين رأيه فيها, وهو سلفي من أخمص قدميه إلى هامته, وهذه مزية قلَّت في الناس).
وقال معالي الدكتور عبدالعزيز الخويطر رحمه الله عن فكر الشيخ التربوي: (الشيخ سعد سابق لزمانه).
طلبه الأمير نايف رحمه الله حين تولى ولاية العهد أن يكون مستشاراً خاصاً فاعتذر الشيخ رحمه الله, فلما أخبرني بذلك, عتِبتُ عليه وقلت: هذا باب خير للنصح والتسديد والإعانة على البر, فقال: كلامك صحيح لكن قد تم الاعتذار، وبعد مدة اتصل الأمير رحمه الله مرة ثانية فوافق الشيخ, ثم مات الأمير رحمه الله بعدها بمدة ليست بالطويلة.
كان الشيخ سعد رحمه الله من الموطئين أكنافاً الذين يألفون ويؤلفون وكنتُ أسأله عن كل شيء ويجيبني, فمثلاً كنت أسأله عن أسفاره وتجاربه في الحياة فكان يغدق علي في الإجابة, فلما رأيتُ عجباً في أسفاره طلبتُ منه أن يكتب عن سيرة سفره فكتبها من ذاكرته, فكانت أفضل ما قرأتُ من سِير السفر, وهي مطبوعة بعنوان (سيرة مسافر سعودي).
تجول شيخنا غفر الله له في أكثر من أربع وخمسين دولة, وكان متقناً للغة الإنجليزية, فقد ذهب لإنكلترا عام 1381هـ؛ ليتعلمها, ومما كتبه الشيخ رحمه الله (في سيرة مسافر سعودي ص45) ما نصه: (كانت مضيفتي الأولى عجوز لا يقيم معها من أهلها إلا ثلاثة كلاب سلوقية! ولما عرفتْ والدتي بذلك خشيت أن تكون مسحورة, كما في ألف ليلة وليلة وأني سأكون رابعهم!).
قال لي: إن مدرساً كبيراً في السن قال للطلبة ومنهم الشيخ أثناء دراسته هناك: سأسألكم سؤالاً لا يمكن أن تجيبوا عليه إلا أن يكون المجيب طالباً ليس من البلد فقد يجيب عليه, وكان سؤاله: ما مرادف كلمة... باللغة الإنجليزية, (الكلمة ذكرها الشيخ ونسيتها), فلم يرفع أحد من الطلاب يده إلا شيخنا قال: هي كذا, فقال الأستاذ: أنت الوحيد الذي أجاب على السؤال, وصدق حدسي في أن طلابنا لن يجيبوا.
كان الأول على دفعته رحمه الله في كلية الشريعة بمكة عام 1376هـ, حتى أن أحد أساتذته رحمه الله قال له: لولا إني على رأسك يا سعد وقت الاختبار لقلت إنك فاتح الكتاب تأخذ منه!
كانت كيفية رضاه بأقدار الله محل عجبي! خذ مثلا ما حدثني به: أنه كان مع أهله بنيويورك فأوقف سيارته ونزل هو وأهله إلى مطعم, وكان أهله قد وضعوا غطاءً على ثلاث حقائب في مؤخرة السيارة, ولما رجعوا إلى السيارة وجدوها مفتوحة والحقائب مفقودة, فقال الشيخ: الحمد الله أن الله خفف عنا حملها ونقلها والمحافظة عليها!!
بل كتب مقالاً سماه (قضاء الله واختياره لنا خير من اختيارنا لأنفسنا) مقال يغنيك عنوانه فكيف بمضمونه!
كتب إلي خطاباً في 18-1-1436هـ جاء فيه: (ذكرت لك أن الله -كما عوّدني- اختار لي المرض الذي لا أختار لنفسي غيره لو خيّرني الله: لا يُؤلم, ولا يُعْدي, ولا يحتاج إلى علاج, ولم يمنع أخي صالح رحمه الله قبلي ولم يمنعني من بلوغ الهرم (فوق الثمانين), أما صالح رحمه الله فابتلاه الله بالكحة ولم يبتلني بها؛ لعلمه تعالى بضعفي عما تحمله أخي رحمه الله ورحمكم, ولعل الله لم يحرمني أجر شدة البلاء الذي اختار للأنبياء فمن دونهم من عباده الصالحين, بل علماً منه بضعفي عن تحمّله, ورأفة بعبده الضعيف).
وقد ذكر بعض المختصين أن هذا المرض - وهو مرض في الرئة- لازم الشيخ رحمه الله منذ الطفولة.
كان رحمه الله يحث على السنة بقوله وفعله كتب مرة لرئيس شؤون الحرمين سنة 1406هـ يقول له: (الإمام لا يصلي إلى سترة في الحرم المكي! وهو القدوة, وإغفال السترة مع تأكيدها بقول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله خطأ غالب، ألا ترون تقديم الميكرفون ليكون سترة؟ أو وضع سترة أخرى).
لا أظن أحداً من العلماء أو الأمراء وغيرهم إلا وقد وصله كتاب وخطاب من الشيخ وكان يرد على الجماعات المسماة إسلامية، وعلى من يستحق الرد, وينصح سراً ويقترح ما فيه نفع للإسلام والمسلمين، ولم يكن يحمل حقداً أو غلاً، مرة رد على الدكتور غازي القصيبي رحمهما الله حول قصيدته الشهداء التي نشرتها بعض الصحف, وكان رداً لا مزيد عليه، فلما انتهى من الرد عليه كتب على هامش الرد: لم أستطع الحصول على... (وذكر كتابين من الكتب الأجنبية) من المكتبات فهل يمكنك ذلك؟ جزاك الله الخير سلفاً!!
فعلاً عجيب يرد عليه ويطلب منه في هامش الرد نفسه أن يزوده بكتابين لم يستطع الحصول عليهما!! هذا يُبيّن لك أن المقصود النصح والنصح فقط, فهل نستفيد من هذه الأخلاق والتعامل؟
خذ مثالاً آخر للتناصح بينه وبين الإمام عبدالعزيز بن باز رحمهما الله كتب الشيخ سعد ما نصه: (من سعد الحصيّن إلى: الوالد الشيخ/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، أعزّه الله وأيده. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أمّا بعد: فمن فتاوى اللجنة الدّائمة أو بعض أعضاء الهيئة ما يلي:
1) (لابأس من التمايل أثناء قراءة القرآن لأنها عادة لا عبادة).
وأرجو التفضل بالسماح لي بالاعتراض.. بأنّها عادة دينيّة أخذها المسلمون من اليهود وأخذها اليهود من الهندوس ولا يزال اليهود يتمايلون عند المبكى وفي المعبد والمقبرة عند الذّكر وقراءة التوراة وكذلك يفعل المتصوّفة عند الذّكر المبتدع: الله.. الله، الله.. حي، وجميع القراء المبتدعة يفعلونها عند التلاوة لا يستثنى منهم أحد فهي ملازمة للتّلاوة والذّكر عامة عند جميع المبتدعة وهم الأغلبية وليست عادة فردية. ولا يزال الهندوس (وهم أساس معظم البدع عند المسلمين المبتدعة والنصارى واليهود والبوذيّين وطوائف الضّلال عامة) يفضّلون الذّكر القلبي بلفظ أُوْمْ (حوّلها مبتدعتنا إلى الأنفاس القدسيّة عند الشّاذليّة)، ويتمايلون عند الذّكر، ويتعبّدون بالصّمت، ويقولون بالفناء في الذّات الإلهية، ويضربون بالشّيش، وهم أوّل من استعمل خرز المسبحة لإِحصاء الذّكر ثم البوذيَون ثم النصارى ثم مبتدعة المسلمين.
2) (لا بأس بوجود كلمة got على بَرَّادَات الماء بالمسجد الحرام والمسجد النّبوي وإن كانت تعني الإله بالألمانية، فربما قصد بذلك أنها في سبيل الله).
والحقيقة أنّ هذه الأحرف لا علاقة لها باللغة الألمانية ولا بالألوهيّة وإنما هي من رمز للشركة الأمريكية المنتجة.
أرى عدم التّوسّع في إجازة الأمور المتعلّقة بالعبادة ولو كانت عادة إذا كثر استعمالها ولصقت بالعبادة، فمثل هذا التّوسّع هو الذي أوصل إلى التّعبّد بالمولد والمناسبات الماضية في القرون الماضية بين المسلمين، فهم يقولون في بداية الأمر وفي نهايته: ليس المولد عبادة وإنما هو وسيلة للعبادة: حبّ النبي صلى الله عليه وسلم والصلاة والسلام عليه.
وفقكم الله وأيدكم وثبتكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
هامش: أجاب الوالد الشيخ ابن باز رحمه الله على هذه الرّسالة بأنّه رجع عن فتواه بجواز هزّ الرّأس أو الجسم عند الذّكر، وذكر أنّه اطّلع على كلام للقرطبي رحمه الله فهمت منه أنّه يؤيّد ما ذكرته.
والشيخ ابن باز رحمه الله من نوادر العلماء في هذا العصر لا يتوقّفون عن الرّجوع إلى الحقّ ولو جاءهم ممّن لا يصل إلى كعبهم في العلم والفضل بل ليس أهلاً ليكون من تلاميذهم. وقد جمع الله له من العلم والعمل والخُلُق ما لا أعرف أنّه اجتمع لغيره منذ القرون الخيّرة، رحمه الله وأسكنه الفردوس من الجنّة، والحمد لله. كتبه/ سعد بن عبد الرحمن الحصيّن).
كان رحمه الله قارئاً من الطراز الأول يقرأ في كل الفنون حتى كتب الأعاجم ومجلاتهم العلمية, ويعرف أخبارهم, وأذكر مرة أن أحد الصحفيين تطاول على مسألة شرعية بزعمه أنها عادة, واحتج بكلام كاتب بريطاني في ذلك, فأخبرت الشيخ فاطلع على المقال ورد عليه, وكان مما كتبه: أن الكاتب البريطاني هذا لا يُعوِّل عليه أهل بلده؛ لأنه فاقد المصداقية ومشهور بذلك, فكيف تنقل كلامه فضلاً عن الاحتجاج به!
وكان رحمه الله مجاهداً في سبيل الله في تقرير التوحيد والتحذير من الشرك, ومجاهداً في الدعوة إلى السنة والتنفير من البدعة وأهلها, كتب وناصح وراسل أهل الداخل والخارج, كتب للصغار والكبار، لا تأخذه في الله لومة لائم، إذا بان له الحق لزمه، ولو أجلب الناس بخيلهم في مخالفته.
كان كاسمه: سعداً لأهل السنة, وحصناً منيعاً لها.
لم أره مرة واحدة على كثرة ما لحقه من الأذى أنه انتصر لنفسه, بل مرة فعل أحدهم آذى به الشيخ رحمه الله، وكان الشيخ يجري له مرتباً, وهذا الرجل ليس من المملكة, فقيل للشيخ: فلان انتشر عنه أنه آذاكم, فهل من الحكمة الاستمرار في دفع مرتبه مع استمراره على فعله, لعلكم تستبدلونه بخير منه, فقال: ما دام يدعو إلى التوحيد ويحذر من الشرك، فلن أقطع عنه شيئاً!!
كان إماماً في العبادة والإقبال على الله كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر, ويقوم قبل الفجر على الأقل بساعة ونصف يصلي، وكان يصلي الفجر ويلزم المسجد حتى تطلع الشمس, وكان يرابط بين العشاءين فيه.
كان إماماً في الدعوة إلى الله ينفق جهده وماله فيها, وكان يشرف على أكثر من ستين رجلا وامرأة من الدعاة في بلدان العالم الإسلامي, ويجري لكل واحد منهم مالاً عن طريقه.
كان يقول لي: أولى الناس بالبر بعد الوالدة هي الزوجة, وكان يطلب مني أن أطلب المسامحة من الوالدين وأهل بيتي حرسهم الله في مزاحمته لهم في وقتي!
وكان من بره بزوجته أن اشترى مصعداً في بيته رفقاً بها من صعود الدرج.
كان رحمه الله قوَّام لليل ذهبنا مرة لإحدى دول الخليج وتأخرنا في الوصول فقال لي: لعلك توقظني قبل الفجر بساعة, فإني متعب من السفر وأخشى ألا أستيقظ, فقلت: أبشر, فجعلتُ المنبه على ما قال الشيخ, فلما استيقظتُ من المنبه ذهبتُ لغرفة الشيخ رحمه الله لأوقظه, فإذا هو ساجد يصلي!! وسمعته يدعو ربه ويلح عليه, فأسفتُ على حالي.
لم أر أطول منه أداءً للصلاة كان يتم ركوعها وسجودها إلا ما رأيته من شيخنا فهد الزكري غفر الله له.
كان يدعو كل ليلة لعلماء منهم: الإمام أحمد, وابن تيمية, وابن القيم, والنووي, وابن كثير, والإمام محمد بن عبدالوهاب وأبنائه إلى الشيخ محمد بن إبراهيم والإمام محمد بن سعود وأبنائه وأسرة آل سعود والشيخ ابن باز والألباني وغيرهم، يقول لي: كل ليلة أدعو لهم, وكان جزاه الله عني خير الجزاء واخلفني خيرا يدعو لي ولوالديَّ ولأولادي ولأهل بيتي كل ليلة, بل لما لحق أحد إخوتي مرض خطير أخبرتُ الشيخ, فكان يدعو الله بشفائه كل ليلة إلى أن شفاه الله, ولما مرض ابني عبد الله أصلحه الله وجعله قرة عين وأدخل المستشفى أخبرته, فكان يدعو له كل ليلة، ويرسل لي خطاباً كل يوم يسأل عنه ويدعو له.
كان من دعائه كل ليلة (اللهم من ظلمته أو سببته أو شتمته أو آذيته فاغفر له وارحمه).
كان رحمه الله يسأل الله أن يمتعه بقوته إلى وفاته فكان كذلك, دخل المستشفى رحمه الله يوم الأحد وكان يمضي وقته في الصلاة النافلة والذكر، وقبل وفاته طلب قلماً وورقة؛ ليكتب, فكتب: (بسم الله) وفاضت روحه رحمه الله.
مات وهو ممسك بالقلم, كالمجاهد الذي مات ممسكاً بسيفه, ولا شك أن جهاد القلم أعظم من جهاد السيف كما قال ابن القيم رحمه الله.
حين توفي الشيخ صالح اتصلتُ بالشيخ سعد غفر الله لهما لأعزيه فكان مما قاله: كنتُ أحاول أن أسبقه ولو لمرة واحدة؛ حيث كنت أتبعه حين ذهب لدار التوحيد ثم لكلية الشريعة ثم لمصر ثم في بقية الأمور, وظننتُ أني سأسبقه ولو في الموت قبله! حتى أني قلت له: إن مت فاجعلوا دفني في مقبرة العدل فقد واعدتُ والدتي أن أقبر معها.
قبل سنوات طلب أحد الأمراء الكبار زيارة الشيخ سعد, فاعتذر الشيخ! فقال الأمير: إما أن تأتي إليّ أو آتي إليك! فقال الشيخ رحمه الله: بل آتي إليكم, جلس الشيخ مع الأمير وتحدثا وكان الأمير يحب الشيخ حباً كثيراً، فقال له عند توديعه: وش أخدمك به يا شيخ سعد اطلب ما شئت, فقال الشيخ: لا أريد إلا قبراً في مقبرة العدل!! استغرب الأمير الطلب وتعجب أأحد يطلب قبراً.
وقد حقق الله له ما تمناه فقد أهلْنا تراب مقبرة العدل على جدثه بعد صلاة الجمعة, فهنيئاً لتلك البقعة به! وهنيئاً لأهلها بجواره.
ومن الفأل الحسن أن خطيب المسجد الحرام كانت خطبته عن الأعمال يكون جزاؤها دخول الجنة من أبوابها الثمانية, فأسأل الله أن يكون لشيخنا ذلك الفضل.
كان آخر رؤيتي له حين شاركته الغداء يوم الجمعة الموافق14-2-1436هـ, وكان يقول: إذا جئتَ إلي زادت شهيتي للأكل, فلا تحرمني ذلك!
وكان آخر مرة سمعتُ صوته يوم السبت الموافق 28-2-1436هـ حين اتصلت به, فحدثني وحدثته, وكأني سمعتُ أحداً يتكلم حوله, فقلت: عسى ما قطعتكم عن شيء, فقال: لا, هذا ابني ياسر لا يريدني أن أُتعب حالي بالكلام, لعله غار مني بكلامك معي, فودعت الشيخ على أمل أن اتصل به مرة أخرى, فلم تكن هناك أخرى! سما به فرحُه للقاء ربه, وقعدت بي أحزاني عليه, لم أفقدتك يا شيخنا لكني فقدتُ قلبي, فاللهم رفقاً بي.
لما اتصلتُ بأم طارق زوجة شيخنا لأعزيها قالت: أنت أولى الناس بالتعزية, كان والدنا يحبك كثيراً, ويفرح بذكرك.
كانت أيامي معه: أحلى من الشهد، وأجمل من نسيم السحر, وألذ من إغفاءة الفجر، وأطيب من نَفَس الربيع، يصدق عليه في أموره، وعلى صداقتي معه قول ابن كثير في ابن القيم رحمهم الله: (كان كثير التودد, لا يحسد أحدا, ولايؤذيه, ولا يستعيبه, ولا يحقد على أحد, وكنتُ من أصحب الناس له, وأحب الناس إليه, ولا أعرف في هذا العالم في زماننا أكثر عبادة منه, وكانت له طريقة في الصلاة يطيلها جدا, ويمد ركوعها وسجودها).
فاللهم ارحم شيخي ووالدي سعد الحصين, وما كنتُ أظن أننا سنفترق بهذه السرعة وما حالي معه رحمه الله بعد فراقه إلا كحال متمم بن نويرة مع أخيه مالك حين قال:
وكُنَّا كَنَدْمَانَيْ جَذِيمةَ حِقْبَةً
مِنَ الدَّهْرِ حَتَّى قِيلَ لَنْ يَتَصَدَّعَا
وعِشْنا بِخَيْرٍ في الحياةِ وقَبْلَنَا
أَصَابَ المَنَايَا رَهطَ كِسْرَى وتُبَّعَا
فإِنْ تَكُنْ الأَيَّامُ فَرَّقْنَ بَيْنَنَا
فقد بَانَ مَحْمُوداً أَخي حِينَ وَدَّعَا
فلمَّا تَفَرَّقْنَا كأَنِّي ومَالِكاً
لِطُولِ اجْتِماعِ لم نَبِتْ لَيْلَةً مَعَا
بأَحْزَنَ مِنِّي يومَ فارَقْتُ مالِكاً
وقامَ به النَّاعِي الرَّفِيعُ فَأْسْمَعا
وأَنِّي متى ما أَدعُ باسْمِكَ لا تُـجِبْ
وكُنْتَ جدِيراً أَنْ تُجيبَ وَتُسْمِعَا
فإنْ يَكُ حُزْنٌ أو تَتابُعُ عَبْرَةٍ
أَذابَتْ عَبِيطاً مِن دَمِ الجَوْفِ مُنْقَعا
تَجَرَّعْتُها في مالِكٍ واحْتَسَيْتُها
لأَعْظَمُ مِنْها ما احْتَسَى وتَجَرَّعا
سَقَى اللهُ أَرْضاً حَلَّها قَبْرُ مالِكٍ
ذِهابَ الغوادِي المُدْجِنات فأَمْرَعا