قيل لي: لا تظن أنك ستحصل على ما تريده منه! فهو صعب المراس! بل قيل لي أيضاً: محاولتك معه ستنتهي بالفشل! كثير من الطلبة لم يرجعوا منه ولا بخفي حنين! (والحمد لله أني لم ألتفت لكلامهم؛ إذ الالتفات إلى قولهم في هذا الموضع نقص العقل). فقلت لأحدهم: أعطني رقم هاتفه. فأملاه علي وهو يتمتم «ستعرف صدق كلامي»!
اتصلتُ به - رحمه الله - فرد عليّ مباشرة قائلاً: نعم. فقلتُ: أنعم الله عليكم بنعم الدين والدنيا. فقال: آمين. فقلت: السلام عليكم ورحمته وبركاته. فرد السلام مردفاً بنعم! فعرض لي قول أولئك القوم! فبادرتُ بقولي: عسى ما أزعجتكم رحمكم الله؟ فقال: إلى الآن لم يحصل إزعاج!! فابتسمتُ وعلمتُ أني قد أُزعجه لاحقاً! فقلت: معكم فلان وهو يعدُّ رسالته لنيل درجة الدكتوراه وموضوعها (في تحقيق جزء من التعليق الكبير لأبي يعلى رحمه الله), وبودي أعرض المخطوط عليكم. فقال: أين أنت؟ فقلت: الآن بمكة. فقال: لكني بالرياض. فقلت: ثلاثة أيام بإذن الله وأكون بالرياض. فقال: سأكون حينها بعنيزة. فقلت: إن سمحتم آتيكم فيها؟ فقال: إذا رجعتَ للرياض فاتصل.
انتهت المكالمة، فجال ذهني كيف يكون هذا الدكتور؟ وكيف مزاجه؟ وهل يمكنني الاستفادة منه؟
رجعتُ إلى الرياض، واتصلت به - غفر الله له - وقلت له بعد التحية: هل يناسبكم شيخنا ضحى اليوم الفلاني الساعة العاشرة صباحاً؟ قال: نعم.
استعنتُ بالله، ويممت وجهي إلى عنيزة مستصحباً أخص أصدقائي. لما وصلتها اتصلت به ليصف طريق منزله, حتى وقفتُ عند استراحته ولما يشرع في بناء بيته, فلما خرج إلينا عجبتُ من حاله وتواضع لباسه، فقلت في نفسي: أهذا فقيه المخطوطات وسيدها!! لكن كما نُقل عن الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه:
لَيْسَ الجَمَال بأَثْوابٍ تُزَيِّنُنَا
إن الجمال جمال العلم والأدب
وقال آخر:
لَيْسَ الجَمالُ بِمِئْزَرٍ
فاعْلَمْ، وإِنْ رُدِّيتَ بُرْدَا
إِنَّ الجَمالَ مَعادِنٌ
ومَناقِبٌ أَوْرَثْنَ مَجْدَا
فقبَّلت جبينه - رحمه الله - وأدخلني مجلسه, فما إن جلستُ دخل علينا قائلاً: أنا لا أريد أن يضيع وقتي! فقلت له وصاحبي يسمع: لن يضيع وقتكم بإذن الله. فلما جلس وجّهت إليه أسئلة كثيرة حول بعض الحنابلة وكتبهم ومناهجهم وما كتبه بعض المعاصرين, وكانت أسئلة فيها نوع دقة فانبلجت أساريره, وأحضر القهوة والشاي. ومن فرحي بسروره انسكب فنجان القهوة من يدي! فخشيتُ أن يسمعني كلمة! فكأنه لم ير، وانطلق يحدثنا، وإذا سكت سألته، فما هو إلا أن سمعنا نداء الدعوة التامة لصلاة الظهر, فقال الشيخ رحمه الله: وش عندكم بعد الظهر؟ فقلت: ما عندنا شيء لكن لا بد من المغادرة الساعة الثانية تقريباً من القصيم إلى الزلفي. فقال: هل لكم منزل هناك؟ قلت: لا, بل على موعد مع الشيخ عبدالمحسن العباد. فقال: تغدوا عندي. فاعتذرتُ قائلاً أخشى أن أضيّع وقتكم. فقال: أبداً. وأصرّ على أن نتناول الغداء معه, وقال: غيركم نقهويه ونسلِّمه للباب؛ لأن الوقت يضيع بلا فائدة له ولا فائدة لي!
صلينا الظهر, وبعدها لما اطمأننتُ لأنسه بنا سألته عن أمور كثيرة، منها: ما كان بين الشيخين عبدالله البسام وبكر أبو زيد رحمهما الله حول علماء نجد, وسألته عن كتاب تسهيل السابلة لصالح العثيمين رحمه الله, وعن بدء الشيخ مع الحنابلة واشتغاله بتحقيق طبقاتهم وتراجمهم, وهو يجيب بإسهاب رحمه الله.
أوصاني ألا ألتفت وأشغل بالي بمن يناقش الرسالة، وكان مما قاله: اعمل بجد في تحقيق الكتاب بما يجعلك راضياً عن عملك, فإن بعض المناقشين يصدق عليهم قول الله:
{وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} (7) سورة الأنعام. لا بد يدور العيب.
أحضر الغداء - أكرم الله نُزله - فقلت له ونحن نأكل: حقيقة يا شيخنا إني أُرعِبتُ منكم! فقد قال لي أكثر من رجل: لن تظفر من العثيمين بشيء, وها أنا ظفرت بوقت وعلم بل وأكل. فقال: نعم، لو كنت مثل الذين قالوا لك ذلك الكلام ممن هم يضيعون الوقت لما ظفرت بشيء.
فاجترأتُ عليه مرة أخرى - أحسن الله وفادته - وقلت: بل قيل لي: إنك تؤدب ضيوفك وتسمعهم كلمات قارصة, وكأني أبحث عن مذبحي! فقال: لو أخطأتَ لسمعتَ. فقلت: قد سكبت فنجان القهوة!! وكأنك لم تر. قال: أنت ضيفي وقطعاً أنت لم تتعمد ذلك, ومثلها لا يعتب عليه.
سألته عن تراجم الحنابلة، وهل يغني بعضها عن بعض, وبلفظ آخر: ما الكتب التي يكتفي طالب العلم في تراجم الحنابلة؟ فقال: لا يتعد ثلاثة كتب: طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى, وذيل الطبقات لابن رجب, والسحب الوابلة لابن حميد بتحقيقي؛ فهي تغنيه عما سواها؛ فقد كمّلتُ ناقصها, وسددت خللها. هل وجدت حنبلياً ينطبق عليه الشرط ولم أذكره؟ قلت: لا, إلا رجلاً واحداً ذكره أبو يعلى في التعليقة, وابن مفلح في الفروع، وهو أبو بكر بن محمد بن جعفر الحنبلي المؤدب، لم أجد من ترجم له إلى الآن.
ثم قلت: هناك بعض من كَتَبَ عن الحنابلة وعن تراجمهم. فقال: استفادوا من جهدي، والدليل أن ما وهمتُ فيه قد وهموا فيه, هل ذكروا ترجمة من ذكره أبو يعلى؟ قلت: لا. قال: فاتني ففاتهم.
حدثني عن السحب الوابلة قائلاً: إن سماحة الشيخ ابن باز - رحمه الله - هو الذي طلب مني أن أحققه, فاعتذرت, فاتصل بي الشيخ محمد بن عثيمين - رحمه الله - يعتب عليّ, كيف أرد طلب الشيخ ابن باز، أمثل ابن باز يُرد؟! فأخبرته بعذري فلم يقبله, وقال: سأقول للشيخ أنك موافق، ويعينك الله. فقلت: بشرط أن يتولى أحد الجانب العقدي، وأنا أتولى التراجم وما دار في فلكها. فوقع اختيار الشيخ ابن باز على الشيخ بكر أبو زيد رحمهم الله جميعاً.
فبدأت بتحقيق الكتاب, ولما انتهيتُ منه قال الشيخ بكر: سأقول للشيخ ابن باز يكتب تقديماً للكتاب؛ إذ هو من طلب تحقيقه, فقلتُ (القائل عبدالرحمن العثيمين): الشيخ ابن باز على رأسي ومحل والدي, ولكن لو فعلتَ ذلك لمزقتُ الكتاب! إذا لم أكن راضياً عن عملي فلا حاجة لإغراء الباحثين بتقديم الشيخ، وإذا كنتُ راضياً عن عملي فلا داعي لأطلب الثناء عليه. فقال الشيخ بكر: الذي تراه, لكن سأكتب أنا المقدمة. فقلت: أنت مشارك في الكتاب ولا حق لي في منعك.
فكان مما كتب الشيخ بكر في مقدمة الكتاب ما نصه: «تولى فضيلة الشيخ عبدالرحمن تحقيق الكتاب وتخريج تراجمه، وتدارك الفوت على مؤلفه بحواش ممتعة حسان مشبعة بالعلم والتحقيق, جامعة لعزيز الفوائد, والتدقيق في التراجم, ولمِّ شتات البيوتات الحنبلية بما لا يقوى عليه إلا هو, ولا أقول مثله».
قلت للشيخ: إن تقديم الشيخ ابن باز رحمه الله للكتاب يزيد بإذن الله في نشره. فقال: أنت الآن ما الذي أتى بك إليّ؟! أليس تحقيقاتي هي السبب؟ فقلت: بلى والله. فقال: الذي أتى بك قد جاء بالمئات من الداخل والخارج. وفهمتُ منه - رحمه الله - أن التحقيق لو لم يكن جيداً فهل سيأتي طلبة العلم لأن العالم الفلاني قدّم للكتاب؟
قال لي بعد مدة: إن أحد شيخين أشار على الشيخ ابن باز - رحمه الله - أن تعاد طباعة كتاب السحب الوابلة، وأن يتولى تحقيقه عبدالرحمن العثيمين, وهذان الشيخان كلاهما من شيوخي. أما أحدهما فقد مات - رحمه الله - ولا يمكنني سؤاله, وأما الآخر فما زال حياً - متعه الله بالصحة والعافية - فسألته: هل أنتم من اقترح على سماحة الشيخ ابن باز بإعادة تحقيق كتاب السحب الوابلة، وأن يكون المحقق د. عبدالرحمن العثيمين؟ فقال: لا.
فعرفتُ أن المُقْترِح هو شيخنا العلامة عبدالله الغديان رحمه الله وجزاه خيراً.
وقد كان بين الشيخ عبدالله الغديان والشيخ عبدالرحمن العثيمين معرفة قديمة وتعاون منذ زمن. انظر مثال هذا التعاون في حاشية كتاب ذيل الطبقات لابن رجب (1/347).
لما انتهينا من الغداء، وجئنا نودعه, قال: أنتم ذاهبون للزلفي للشيخ العباد. فقلت: نعم. فقال: إذن أتبعكم بسيارتي. فقلت: أبداً والله، بل تركب معنا. قال: فيه تعب عليكم ترجعون بي لعنيزة. قلت: بل والله غنيمة كبيرة. فركب معنا وأنا متعجب من تسخير الله ونعمته علينا، كيف سهّل لنا العلاقة الحميمة بهذه السرعة. فاتجهنا إلى الزلفي، وأدركتنا صلاة العصر بالطريق.
فسألت الشيخ: هل التقى بالألباني رحمه الله؟ قال: نعم، كان يأتي إلى معهد البحوث العلمية وإحياء التراث الإسلامي حين كنت القائم عليه. وسألته عن تحقيقات الألباني؟ فقال: الألباني رحمه الله تعدى القنطرة لا يُسأل عنه.
وسألته عن أحد المحققين, فقال: مكبر رأسه بالعمامة!
سألته: هل تعرفون الدكتور عبدالسلام بن برجس العبدالكريم؟ فقال: نعم. وحين رأيت حرصه وفهمه وقع في قلبي أنه يموت عجلاً. وفعلاً مات رحمه الله. وأول ما لقيني في الحجاز قال لي: إني أحبك في الله. فقلت له: تكذب! فقال: لمَ تكذبني؟ فقلت له: هل جاورتني؟ هل عاملتني بالمال؟ هل سافرت معي؟ فقال: لا. فقلت: كيف تحبني في الله وأنت لا تعرفني! وكيف تريدني أن أصدقك ولم تحصل تلك الأمور بيننا!؟
فقلتُ: يا شيخ عبدالرحمن أجل، لن أقول لك إني أحبك في الله! فقال: أنت قلها!! قلت: عجيب اليوم حصل اللقاء بكم. فقال: ولكن ها نحن نسافر سوية!
وصلنا إلى الزلفي، ودخلنا على الشيخ عبدالمحسن العباد، فاستقبلنا كالعادة بكرم ولطف وحسن معشر متعه الله بالصحة والعافية. فقال الشيخ عبدالمحسن: يا شيخ عبدالرحمن تذكر حين زرتك في المعهد الذي كنت قائماً عليه فمررنا بالمكتبة فإذا محمد الصابوني فيها, فقلت لكم: ما منزلته في العلم؟ فقلت: دون العالم وفُويق العامي! فقال: نعم أذكر. مكثنا ساعتين في الزلفي من فائدة إلى فائدة بين هذين العالِمَيْن. وأذكر من تلك الفوائد: لفظة (الفنادق) هل كانت مستعملة قديماً؟ فذكر الشيخ عبدالمحسن أن ابن رشد ذكر في بداية المجتهد الفنادق, فقال الشيخ عبدالرحمن: فيه من ذكرها قبل ابن رشد، فقد جاء في قصة ذهاب ابن زريق من بغداد إلى الأندلس حيث ورد أنه استأجر في فندق في الأندلس, وهذا محل الشاهد. ثم ذكر الشيخ قصته كاملة مع بعض الأبيات:
لا تَعذَلِيه فَإِنَّ العَذلَ يُولِعُهُ
قَد قَلتِ حَقاً وَلَكِن لَيسَ يَسمَعُهُ
إلى أن وصل إلى:
كَأَنَّما هُوَ فِي حِلٍّ وَمُرتحلٍ
مُوَكَّلٍ بِفَضاءِ اللَهِ يَذرَعُهُ
ولتمام الفائدة: اتصل بي بعد مدة شيخنا العلامة عبدالمحسن العباد غفر الله له، وقال: إن النووي - رحمه الله - ذكر في شرحه على صحيح مسلم قولاً للإمام مالك فيه ذكر الفنادق، فيكون هذا أقدم.
وقد جاء ذكر الفنادق في المدونة, وكذلك ذكرها في كتاب أحكام السوق لأبي زكريا الكناني الأندلسي ت/289هـ.
رجعنا إلى عنيزة، وفي الطريق عرضتُ المخطوط عليه - رحمه الله - طالباً تقدير وقت نسخها, فلما رآها قال: في القرن السابع! ووقعت عينه على لفظة من المخطوط، هي: (القتبي)، فقال: هذا هو ابن قتيبة يطلقون عليه القتبي.
وصلنا منزله قبيل العشاء، فحلف علينا أن ندخل!! فاعتذرنا بالطريق الذي أمامنا, فقال: لا يمكن أن تذهبوا. لو شاي فقط. فنزلنا، وأتى بالشاي، وقال: لا تكون زيارتكم بيضة ديك! (أعيدوا الزيارة).
ودَّعنا الشيخ غفر الله له، فقلت لصاحبي: هل كنت تظن أننا نحظى بما حظينا به؟ فقال: لا.
كنت كلما سنحت لي فرصة لزيارة الشيخ - رحمه الله - اقتنصتها؛ فاستمرت العلاقة معه سنوات، تخللها ذهابه للعلاج في ألمانيا، وتعاقبت عليه الأمراض وهو متجلد لا يشتكي.
اتصلت به سائلاً وقلت عسى ما أزعجتكم؟ فقال: لا, أنت لا تزعج!
دخلتُ عليه مرة فقال: اليوم أتممت صفّ مكتبتي. وقد حدثني عنها كثيراً. قال مرة وأنا أسمع: عندي ثلاثة آلاف ديوان! وبعضها أكثر من نسخة مختلفة الطبعات، بل بعضها يبلغ خمس نسخ، مثل ديوان الراعي النمري.
قال مرة: لما طُبع كتاب شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي شكك فيه من شكك. اتصل بي أحد المشايخ وقال: هل تعرف نسخة بخط المؤلف؟ فقلت: أشوف. فوجدت نسخة بالمكتبة السليمانية بتركيا منقولة عن نسخة منقولة عن خط المؤلف، ومقابلة عليه، فصورتها ودفعتها لطالبها، فكانت من النسخ المهمة لرد تلك الشكوك.
دخلتُ مكتبته أكثر من مرة، وكنتُ كل مرة أحرص على فتح أول الكتاب لأنظر الإهداءات التي كانت تهدى للشيخ - رحمه الله - وما أكثرها, وكذلك أحرص على النظر على بعض الكتب، هل للشيخ تعاليق عليها أم لا؟
نظرت في كتاب علماء نجد، فقال معلقاً: الشيخ عبدالله البسام قال لي: خذ الكتاب يا أبا سليمان فعلق عليه، واحذف ما شئت وافعل به ما شئت! فاعتذرت.
مررنا بكتاب القند في ذكر علماء سمرقند فقال الشيخ: هذا الكتاب هو الذي أظهر العبد الفقير؛ إذ طلب حمد الجاسر - رحمه الله - مصورة مخطوطته مني، فدفعتها إليه. ومن اللطيف أن أحد محققي الكتاب شكر في المقدمة الشيخ حمد الجاسر بتزويده صورة المخطوط.
مررنا بتأريخ تحفة المشتاق فقال: هذا من أحسن التواريخ.
سُئل عن أفضل مؤرخي نجد فقال: هما ابن بشر وابن عيسى.
نظرتُ في كتاب صحيح الأخبار لابن بليهد وإذا الكتاب إهداء من الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله، وكان تملكه الشيخ عام 15-4-1388هـ، فشطب على ختم مكتبته، وكتب (هدية مني للأخ عبدالرحمن السليمان العثيمين).
قلبتُ الكتاب فوجدتُ فيه صورة، فصرفتُ بصري، وقلت للشيخ: انظر هنا. فلما رآها قال: «الله يجزاك خيراً، الله يجزاك خيراً». كلمات وقعت في قلبي مباشرة, ثم قال: أتعرف من صاحب الصورة؟ قلت: لا. قال: أمي، هذه صورة أمي, الله يرحمها.
فقلت: هل ستأخذها معك أم ترجعها في الكتاب؟ قال: بل خلها في مكانها, ووضعها في الكتاب.
مررنا بكتاب الزهرة لمحمد بن داوود الظاهري فقال: هذا من أفضل كتب الأدب.
مررنا بكتاب الأنساب للسمعاني فقال: لا بد من التأكد من المعلومة التي تأخذها حتى لو كانت في الكتب السابقة لك بقرون. فمثلاً: الحِمَّاني جعلها السمعاني في كتابه قبيلة نزلت الكوفة, ولما بحثت وتأكدت بان لي أنها فخذ من تميم وليست قبيلة.
أثنى على تأريخ حافظ وهبة، ثم ألتفت إليَّ قائلاً: تدري لماذا كان متميزاً؟ قلت: لا. قال وهو مبتسم: لأنه مدح أهل عنيزة.
حدثنا مرة أن أحد المشايخ المعروفين ذهب إلى المغرب وزار معرض كتاب هناك, فاشترى كتاباً قد زوّر في نيته أنه لأبي سليمان, فلما جاءني أهدى إليَّ الكتاب, وقال: والله أنت على بالي يا أبا سليمان، وإني احترت ماذا أشتري لك، فوقع اختياري على هذا الكتاب. قال الشيخ: فنظرت في الكتاب فعرفته من عنوانه, فدفعته إليه، وقلت: كمِّل معروفك, واكتب عليه الإهداء. فكتب الإهداء عليه، فأخذتُ الكتاب منه, وقلت: هل تعرف ما مضمون الكتاب؟ قال: لا، غير أنه ديوان شعر! فقلت له: الله يصلح هذا ديوان أبي حُكيمة في رثاء أيره!! والهدايا على مقدار مهديها!!
حدثني - رحمه الله - أن سماحة الشيخ عبدالله بن حميد - رحمه الله - كان يأنس به, وكان الشيخ عبدالله يقول للدكتور عبدالرحمن: يا أبا سليمان، لو عيّنتُك قاضياً لكانت ذمتي بريئة. وكان الشيخ عبدالرحمن يقول للشيخ عبدالله ممازحاً: يا شيخ عبدالله، تعال أقرأ عليك بعض قصص النحويين وفرائد لطائفهم, ما يجعلك تندم على ما مضى من وقت في غيرها!!
قال الشيخ أبو سليمان رحمه الله: ذهبت إلى الكويت، وكان الفندق محل إقامتي مقصوداً من وفود خارجية وداخلية، وقد صادف أن كان رئيس رئاسة الشباب الأمير فيصل بن فهد - رحمهما الله - في الفندق نفسه. قال الشيخ عبدالرحمن: كنت مرة عند المصعد أنتظره إذ دخل الأمير الفندق يريد المصعد، فلما رأيته قاصداً المصعد ابتعدت عن المصعد؛ إذ حوله بعض الرجال. فلما فُتح باب المصعد دخله الأمير، وقال: ادعوا الرجل الذي تنحى. فناداني القوم، فقدمت، ودخلت معه المصعد، وسلمتُ عليه, فقال: أنت معنا في الوفد؟ فقلت: لا, عندي عمل أقوم به. فقال: تعش معي الليل, ولا أسمح بالاعتذار. فقلت: نشوف إن شاء الله. وفي ظني أنه ينسى من كثرة أشغاله وزواره. وقبل أن يخرج من المصعد قال لي: عملك تابع لأي جهة؟ فقلت: جامعة أم القرى. فقال: تعرف د. عبدالرحمن العثيمين؟ فقلت: أتركه عنك. فقال: لا والله, دائماً يتحفنا بمطبوعات معهد البحوث، ويرسل لنا, وإذا طلبنا شيئاً من الكتب وفَّر لنا ما نريده فوق الحاجة، فلعلك تبلغه سؤالي وسلامي. فقلت: بإذن الله. قال الشيخ وبعد صلاة العشاء بقليل رن هاتف الغرفة, فأجبته: فإذا هو الأمير، يقول: تأخرت علينا فإنا ننتظرك. فذهبتُ لوليمته, فقربني عنده, ولما أخبرته باسمي أخذه العجب، وبالغ في إكرامي وشكرني، وقال: لعلك تكون في ضيافتنا مدة إقامتك. فاعتذرت إليه بعد شكري له.
وقصص الشيخ عبدالرحمن كثيرة جداً، منها: قصته مع الشاب المغربي، وقد اشتُهرت, وقصته مع كتاب السابلة مع بكر أبو زيد، وقصصه مع محمود شاكر وهي كثيرة، منها: أنه مرة ذهب الشيخ لمصر فزار محمود شاكر فاختلفا في كتاب، فجزم الشيخ عبدالرحمن بأنه كذا وكذا, فكذبه محمود شاكر, فخرج الشيخ عبدالرحمن مغضباً, ولما رجع لمكة قصد الحرم، فصلى ثم ذهب للمعهد، وصور المراد تصويره, وبعث به عن طريق شاب يقال له: علي الجمالي (قال الشيخ: ليت من يشكره, وها أنا أشكرك يا علي نيابة عن الشيخ رحمه الله). قال الشيخ: فدفعتُ الظرف لعلي الجمالي ولم أكن أعرفه إلا حين صليت في الحرم تلك الليلة، وتعرفتُ عليه عند محل المكالمات التي كانت بالهلل في ذلك الزمن. فبعد مضي مدة من الزمان إذا بباب شقتي يطرق بعد صلاة العشاء بمكة، وأصر الطارق على أن يخرج إليه أحد. فخرجت، فإذا رجل مصري أعرفه من المتعاونين في جامعة أم القرى أو قال: هو صاحبي الطناحي (الشك مني). سلّم بحرارة، وقال: إن محمود شاكر أمرني أن أقبّلك من أعلى رأسك إلى أسفل قدميك إلا موضعين! فقلت له: إن محمود شاكر أعرفه لا يستثني!!
حدثنا مرة أنه في إحدى المكتبات بتركيا، وكانت السماء تمطر، وكهرباء البلد يشتغل ساعة ويقف مثلها، فطلبت كتباً فأتوا بها، فإذا بينها كتاب معجم شيوخ بغداد لأبي حيان بخطه, وهو عندي ككتاب ابن تيمية عندكم, فوضعته في الجيب الداخلي مما يلي الصدر حتى لا يصيبه المطر, وتغافلت صاحب المكتبة وهو ينعس, فخرجت والسماء تمطر قاصداً مكتبة قريبة عندها آلة تصوير, وقد غاب عن بالي أن الكهرباء قد توقفت, فلما وصلت المكتبة إذا بشاب يعمل فيها, فقلت: هل يمكنكم التصوير الآن، قال: نعم, فالكهرباء عندنا ما زالت.. ونحن نتحدث إذا برجل كبير السن يخرج من داخل المكتبة، فلما عرف أني من الحجاز أمر ابنه بأن يصلح حبر الطابعة, وأن يحضر ورقاً جيداً، وهما كذلك إذ عرض لي التفكير في عملي, وصرت أخاطب نفسي بلا كلام: يا أبا سليمان تركت أهلك منذ شهور، وتحملت التعب والنصب, وكابدت السفر ومشاقه, وآخرتها تفعل ذلك؟! فاعتذرت إلى صاحب المكتبة، ورجعت أدراجي، ووضعت الكتاب مع الكتب التي على الطاولة, وخرجت مع رواد المكتبة أشرب الشاي, فلما رجعت إذا الكتب قد أرجعها المسؤول عن المكتبة إلى أماكنها، فبحثت عن الكتاب وسألت عنه المسؤول فلم يعرف موضعه لأنه ليس في مظانه, فذهبت سنين كثيرة والكتاب في خاطري، وبعد مدة اتصل بي صاحب لي من إحدى الدول يريد زيارتي، قلت له: أنا بعنيزة. فجاء لزيارتي بعنيزة, وتباحثنا في أمور كثيرة، وقصصتُ عليه قصة الكتاب, فقام من محله، وفتح الجهاز الذي معه, وقال: هل تقصد هذا؟ فإذا هو بعينه قد ساقه الله إليّ بعنيزة! فأخذت نسخة منه.
كان شيخنا - رحمه الله - مرجعاً للعلماء وطلاب العلم في الكتب والمخطوطات. كان الشيخ د. عثمان المرشد لا يشتري كتاباً في الغالب إلا أخذ رأي أبي سليمان - رحمهما الله -. قال الشيخ عبدالرحمن: مرة اشترى د. عثمان المرشد كتاب معجم المؤلفين, ثم سألني عن شراء الكتاب, فقلت: ما يشتريه إلا ناقص عقل! فندم الشيخ عثمان على شرائه.
قال الشيخ عبدالرحمن غفر الله له: معجم المؤلفين أخذه من هداية العارفين، وفيه خلط عجيب فلا يعتمد عليهما, وكذلك كشف الظنون يعتمد عليه فقط في التعريف بالكتاب، وكذلك إيضاح المكنون جيد في التعريف بالكتب, أما التعريف بالمؤلف غلط خاصة تأريخ الوفاة.
يندر أن يسأل الشيخ عبدالرحمن - رحمه الله - عن مخطوطة إلا ويعرف مكانها: سألته عن رؤوس المسائل لأبي يعلى, فقال: إن كان الذي في المتحف البريطاني فهو كتاب أبي يعلى. فرجعت إلى مصورة المخطوطة فإذا هو كما قال.
سُئل عن: كتاب شرح الإيضاح لعلي بن عيسى الربعي، فقال: له نسختان، إحداهما في تونس، والأخرى في تركيا.
سألته عن أفضل كتب التراجم عند الحنفية والمالكية والشافعية, فقال: أهمها عند الحنفية: الجواهر المضية في طبقات الحنفية, وكتاب ابن طولون الغرف العلية في تراجم متأخري الحنفية, وكتاب أعلام الأخيار من فقهاء مذهب النعمان المختار للكفوي, وإن لم تجده فخذ: الفوائد البهية في تراجم الحنفية للكنوي فهو تلخيص له.
وأهمها عند المالكية: ترتيب المدارك وتقريب المسالك للقاضي عياض, والديباج المذهب في معرفة علماء أعيان المذهب لابن فرحون, وذيله أجود منه وهو المسمى: نيل الابتهاج بتطريز الديباج لأحمد بابا.
وأما الشافعية فكثيرة جداً، من أهمها: طبقات الفقهاء للشيرازي, وطبقات الشافعية الكبرى للسبكي, وطبقات الشافعية لابن شهبة, وطبقات الشافعية لابن كثير, وغيرها كثير.
سألته عن الاعتناء بالطبعات القديمة فقال: لا تشغلك, أهم شيء أن تقرأ الكتاب ولا يزعجك أثناء القراءة, فكم من طبعة قديمة مزعجة, وطبعات جديدة من أحسن ما يكون. وقال: «المغالاة في أثمان الكتب سفه»!
حقيقة، إنه رجل بأمة، يعمل وحده, يسافر وحده, يكابد الكتب وحده, يحققها وحده.. لم أره يشتكي مع كثرة أمراضه وعلله، يفرح إذا أُهدي كتاب إليه. لما أهديته نسخة من رسالتي الدكتوراه أخذها مستبشراً بها شاكراً، وكان يسألني: هل طبعت أم لا؟ هو كنز ثمين, لا تتأخر بإخراجه.
كان جاداً في أموره، حازماً في تعامله.. سألته عن التدرج في تعلم النحو، فقال: يبدأ بالألفية إن كان جاداً، وقد شرحتُها كاملة أكثر من عشر مرات!
خدم شيخنا - رحمه الله - التأريخ, واللغة العربية, والحنابلة، وطلاب العلم، ورواد التراث.. لم يلتفت لشهرة، ولم يبحث عن منصب فيما أحسبه والله حسيبه. كان همه العلم, والعلم فقط, مع فكاهة وظرافة. سأله أحدهم متى يوصف الرجل بأنه مؤرخ؟ فقال: إذا أفنى عمره بالتأريخ, وإلا فهو مشارك، فقال السائل: أليس هذا ظلماً له؟ فأجاب الشيخ: لا، ليس ظلماً له. ثم أردف الشيخ قائلاً: أنت تعرفني؟ فقال السائل: نعم. فقال: كم خرجت من كتاب في الرجال وتواريخهم؟ فقال: كتباً كثيرة. وعدَّ بعضها. فقال الشيخ رحمه الله: هل تصنفني من المؤرخين؟ فقال السائل: نعم، أصنفك منهم. فقال الشيخ: ظلمتَ نفسك, وظلمتني, وظلمت العلم, ثلاث ظلمات، بعضها فوق بعض. أنا متخصص في النحو, ودراستي بالنحو، أربعون سنة أدرس النحو, وقرأت إعراب القرآن للزجاج أربع مرات مع الطلبة من أوله إلى آخره. أنا نحوي. التأريخ أشارك فيه، لا أصنَّف مؤرخاً! فينظر في جهوده كلها وما يغلب عليه فهو متخصص فيما غلب عليه.
حقَّق الشيخ - رحمه الله - كتباً كثيرة في السُّنة, والطبقات, والتراجم, والتأريخ, واللغة, وغيرها.. فاق أهل زمانه، وكان نادرة في معرفة المخطوطات, واسع الثقافة، حاضر الحجة، صافي النفس, يأنس به الجليس.. هذا هو الدكتور العلامة المحقق المدقق أبو سليمان عبدالرحمن بن سليمان بن محمد بن سليمان بن عبدالرحمن بن عثمان التميمي. وُلد بعنيزة 5-1-1365هـ وتوفي فجر الأحد 29-2-1436هـ، وصُلي عليه عصر الاثنين بمسقط رأسه.
رحمه الله من عالم قد ذهب، ومحقق قد غاب, وأحسن الله عزاءنا فيه، وخلفنا بخير منه. {إنا لله وإنا إليه راجعون}.