د. حمزة السالم
بيع النفط بالريال السعودي يعتبر من صلب مواضيع الاقتصاد الكلي، والاقتصاد الكلي علم حديث لم يُفهم بعمق على مستوى تخصصي واسع ولم يستقر بعد.
وكنت قد تأثرت ببعض أساطير الذهب ومؤامرات ألاعيب الدولار، في بداية دراستي للاقتصاد. فقادني هذا، للشغف بفكرة بيع البترول بالريال السعودي عندما كنت طالبا في الدراسات العليا في أمريكا. وكم كان محزنا لي ومخيبا لآمالي، أن أكتشف سريعا مدى سذاجة هذه الفكرة وعدم جدوى الموضوع من الناحية الاستثمارية، واستحالة تطبيقه من الناحية الاقتصادية والسوقية والفنية. وإنقاذا للأمل الذي عشت عليه زمنا من سنوات دراستي، فقد قررت أن أقوم بتأصيل هذه السذاجة علميا، فأجعلها موضوع رسالة الدكتوراه. فإثبات الخطأ علميا، قد يُفتق العقول عن أفكار إبداعية خلاقة ما كانت لتطرأ على البال. والإثبات العلمي الأكاديمي لهذه السذاجة ليس بالأمر السهل. فوضع نظرية جديدة ليس لها سابقة، ثم إثبات عدم صلاحيتها بتبيين الأسباب والموانع والنتائج من خلال نموذج جديد يثبت سذاجة الفكرة، بحيث يكون النموذج قادرا على الصمود أمام الاختبارات الرياضية والتطبيقية أمر شبه مستحيل لطالب دكتوراه خديج المعرفة والتجربة، خاصة مع عدم وجود أي سابقة علمية فيه.
وعودة لبيع النفط السعودي بالريال. فحسب النظرية التي وضعتُها للمقترح الأولي للرسالة، والتي تضمنت عزل جميع المعطيات الأخرى مع تصور وجودها وثباتها، فإن المصلحة الاقتصادية من بيع النفط السعودي بالريال هو توفير مصدر تمويلي أجنبي للبلاد يفوق قيمة البترول المُنتج. فجادلت نظريا أنه بافتراض عزل كل المعطيات الأخرى، فإن بيع النفط السعودي بالريال سيوفر السوق الأجنبية اللازمة لإصدار سندات حكومية بالريال السعودي، يشتريها الأجانب بالعملة الأجنبية. فهو دين أجنبي بعملة محلية. والفرق بين هذا وبين بيعه مباشرة بالدولار، هو خلق طلب دولي على الريال السعودي، من أجل شراء النفط. فمتى وجد هذا الطلب، وكان الريال مُعوما، قامت البنوك المركزية للدول التي تستورد النفط السعودي بالاحتفاظ بالسندات السعودية في احتياطياتها، كما ستحتفظ بها البنوك والمضاربين لتحقيق أرباح من التغيرات السعرية للريال. كما سيصبح الريال عملة متداولة في المنطقة العربية المجاورة وفي بعض الدول المستوردة للنفط السعودي.
ومن أقوى الدوافع والأسباب التي أثارت شغفي بهذا الموضوع، هو تطلعي لرؤية الريال السعودي ضمن العملات الدولية في كثير من المطارات والفنادق وفي جميع وسائل الإعلام المالية والاقتصادية. وهذا أمر سيكون تابعا تلقائيا في حال إمكانية تطبيق التنظير ثم الإثبات العملي لصدق توقعاتها الإيجابية.
ولكن إمكانية تحقيق النظرية تطبيقيا، فضلا عن توقع ظهور نتائج إيجابية منها، أمر يحتاج لمتطلبات كثيرة سابقة للتطبيق، ومتطلبات مصاحبة للتطبيق ومتطلبات مستقبلية تضمن استمراريته. فأوربا مثلا، عملت على تحقيق المتطلبات السابقة اللازمة لتطبيق اليورو.، ثم طُبق اليورو على البلاد الأوربية، إلا أنه عجز خلال الأعوام اللاحقة عن تحقيق النتائج المتوقعة في المرحلة الأولى، والتي كانت تُشكل المتطلبات المصاحبة للتطبيق لأجل تحقيق نظرية اليورو. متطلبات كالحركة العمالية، وكالالتزام بنسبة الديون للناتج المحلي في بعض الدول. وكما قد بان واضحا اليوم أن أوربا أعجز من أن تحقق لليورو المتطلبات المستقبلية اللازمة لاستمراريته لتحقيق نجاحات التنبؤات التنظيرية، كمتطلبات الاندماج السياسي الكامل بين الدول الأوربية، فالاندماج اللغوي والثقافي بعد ذلك.
فعلى الرغم من التفاؤل الذي كان مصاحبا عند انطلاقة اليورو إلا أنه اليوم قد بدأت تظهر سذاجة تنظيراته الاقتصادية. وأعتقد أنه لو قام المعارضون لليورو قبل قيامه، بإثبات سذاجته في تأصيل نظري علمي مُحكم ومثبت، فلعل ذلك كان سيسبب تراجعا أوربيا عن اليورو قبل التورط فيه.
وباختزال شديد فإنه يجب تحقيق متطلبات سابقة، قبل تطبيق تنظير بيع النفط السعودي. كإثبات المقدرة الفنية لمؤسسة النقد السعودي على إدارة عملة معومة، بتطبيق تعويم الريال لفترة كافية سابقة. كما يتطلب توفر اقتصاد سعودي عميق يفوق حجمه حجم النفط بمراحل كافية لامتصاص عوائد النفط وامتصاص تقلباته السعرية. كما يتطلب وجود نظام بنكي متقدم وسوق مالية متطورة، نحن بعيدون عنها بمراحل ضوئية.
وأما المتطلبات التي يجب أن تتحقق تزامنا مع تطبيق التجربة، فوجود حاجة تمويلية للحكومة السعودية، واستمرارية أهمية الاستراتيجية العالمية للنفط السعودي واستمرارية نمو الإنتاج النفطي السعودي ونمو الطلب الدولي على النفط السعودي. كما يتطلب عدم تعرض النفط لتقلبات سعرية حادة، تؤدي لتكثيف كر وفر المضاربين في هجمات متكررة على السوق النقدية والمالية السعودية. كما يتطلب توفر نمو متواصل متزايد في تنوع الاقتصاد السعودي بعيدا عن النفط. فلن يثق العالم باقتصاد يعتمد على سلعة ناضبة واحدة ليجعل من سنداته احتياطيات له بعوائد منخفضة، حتى ولو كانت احتياطيات للتحوط من أجل استيراد النفط السعودي.
وأما مستقبليا، فيتطلب أن يحل الريال السعودي في محل مُجد اقتصاديا بين العملات الدولية. ولا يتحقق هذا إلا بوجود صادرات سعودية متنوعة لسلع غير قياسية. فالنفط سلعة دولية، والسلع الدولية تحتكرها عملة تبادلية واحدة احتكارا طبيعيا، وهي التي تكون الأعمق اقتصاديا والأوثق عالميا. وهذا الاحتكار الطبيعي في حد ذاته لوحده كافي ليحبط تجربة بيع النفط السعودي بالريال، في حال افتراض تحقق جميع المتطلبات السابقة والمصاحبة والمستقبلية مع تخلف متطلب تحقيق تنوع الصادرات السعودية للسلع غير القياسية. فبدون تحقيق هذا المطلب، فإن احتكارية الدولار الطبيعية للسلع الدولية ستُحول عمليات الطلب على الريال لشراء النفط، إلى مجرد عمليات صرف بين الدولار والريال مع قليل من المضاربات، التي تضر الريال والاقتصاد السعودي ولا تنفعه.
وعموما، فعلى الرغم من سذاجة الفكرة في الأصل ثم عجزي عن إثبات سذاجتها علميا بعد ذلك، إلا أن أحلامي الطفولية ببيع النفط السعودي بالريال والتي اتبَعتُها بآمال وردية في محاولة تحقيق الحلم ولو بإثبات عكسه، كانت تجربة زودتني بالصبر على إكمال مشاق الدكتوراه التي كانت تحديا حقيقيا صعبا لرجل مثلي قضى حياته بين مراتع العلوم الشرعية والعسكرية، فكانت المعطيات تتنبأ بفشله لولا أني كنت بهذا الحلم والأمل «أعلل النفس بالآمال أرقبها، ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل».
فبالرغم أنني استسلمت بعد عام من العمل المضني، وغيرت موضوع رسالة الدكتوراه، إلا أن هذا الجهد كانت له آثار معرفية وفكرية أحمدها اليوم. فليس سنوات الحياة هي التي تُعَدُ في عمر الإنسان، بل هي لحظات الحياة في سنوات العمر.