المملكة العربية السعودية بين إعلان وفاة ملك ومبايعة الملك الجديد، لم تعش دقيقة فراغ واحدة، حيث تم انتقال سريع للملك، وعُين ولي العهد، وولي ولي العهد، وصارت الدولة مؤمَّنة بحكم حسمَ الأسئلة التي طالما طرحها البعض حول مستقبل الأسرة المالكة وكيفية نقلها إلى عهد جديد..
فالملك سلمان وهو الحاكم أخو الحاكم ابن الحاكم عيَّن ولي العهد مقرن بن عبد العزيز نائباً لرئيس مجلس الوزراء، واستكمل ترتيب انتقال الحكم في المستقبل، بنقل الحكم لأول مرة في تاريخ السعودية للجيل الثاني من أسرة آل سعود عندما عين الأمير محمد بن نايف ولياً للعهد ونائباً ثانياً لرئيس مجلس الوزراء وأخذ القرار بطريقة انسيابية وسلسة، وحاجة الدولة ماسة إليها.. وقبل سنوات فقدت المملكة العربية السعودية اثنين من القامات الكبار، وهما وليا العهد السابقان الأمير سلطان بن عبد العزيز والأمير نايف بن عبد العزيز، وعلى قدر هذا الفقد، فالدول المستقرة تعي أنها تفقد رجالاً، فالدوام لله وحده، وتنجب رجالاً.. فالأشخاص متغيرون ولكن القشرة الحامية للدولة والمؤسسات إذا زرعت بماء الثقة وثبتت بعوامل الاستقرار والتنمية تبقى صلبة ومستمرة.
رحل الملك عبد الله بعد أن ثبَّت مكانة البلاد على المستويين الإقليمي والدولي، وبعد أن مرت الدولة بسلام من عواصف ما عُرف برياح الربيع العربي، وكان رجلاً محبوباً في الخليج والمغرب وكل الوطن العربي.
ومن الكلمات التاريخية لخادم الحرمين الشريفين المرحوم الملك عبد الله بن عبدالعزيز التي أسجلها عنه كما سجلت بعضاً منها في المقالة السابقة: «إن أول خطوة في طريق الخلاص هي أن نستعيد الثقة في أنفسنا، وفي بعضنا البعض، فإذا عادت الثقة عادت معها المصداقية، وإذا عادت المصداقية هبت رياح الأمل على الأمة.. وعندها لن نسمح لقوى من خارج المنطقة أن ترسم مستقبل المنطقة، ولن يرتفع على أرض العرب سوى علم العروبة.. في مؤتمر القمة العربية العادية» ومن كلماته أيضاً: «إن هذا اللقاء السنوي يمثل فرصة لمراجعة ما أمكننا تحقيقه خلال العام الماضي وما لم نستطع لسبب أو آخر، فالمراجعة عندما تُؤخذ بمقاييس الواقع السياسي وبمعيار ما هو ممكن ستنتهي إلى أننا حققنا منجزات لا بأس بها سياسياً واقتصادياً، أما عندما تكون المراجعة بمقاييس طموحات شعوبنا وبمعيار ما هو ضروري في هذا العصر فسوف تنتهي إلى أن كل ما توصلنا إليه لا يزال متواضعاً وبعيداً عن تطلعات شعوبنا.. في الدورة السابعة والعشرين للمجلس الأعلى لمجلس التعاون.. وإنكم تجتمعون اليوم لتقولوا للعالم من حولنا، وباعتزاز أكرمنا الله به، إننا صوت عدل، وقيم إنسانية أخلاقية، وإننا صوت تعايش وحوار عاقل وعادل، صوت حكمة وموعظة وجدال بالتي هي أحسن تلبية لقوله تعالى: ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (125) سورة النحل.. وإنا - إن شاء الله - لفاعلون.. في افتتاح المؤتمر الإسلامي العالمي للحوار.. نعم إنه الملك المحبوب عند الخاص والعام عبد الله، الذي ستظل شخصيته لها سجية الليالي، ملهمة للكثير، موحية بالكثير، لأنها معدن لا ينفد بعد أمد من الاستمداد قصير، ومنبع لا ينضب على كثرة الاستسقاء والارتواء، ومنار استوى في الاستمتاع بإشعاعه الخاص والعام من مرتادي حاله وأكنافه، والأصفياء من ملازميه وأصحابه، في بأسائه وسرائه وضرائه.
لذا، كما كتبت في المقالة السابقة فقد أحس الجميع يوم نعاه إلينا ناعيه بأن الوطن العربي بأسره فقدَ باختفاء الملك عبد الله - رحمه الله - والتحاقه بالرفيق الأعلى، أحد أبناء المملكة العربية السعودية الذين أسدوا إلى بلدهم ووطنهم العربي والإسلامي أعز وأنفس ما يسديه ابن بار، وضغطوا على التاريخ ورسموا على مسيله ومجراه طابع التأثير الذي يحدث التغيير، وينتهي به المطاف إلى التبديل والتحويل، طواه الردى عنا والأمل معقود بامتداد حبل حياته، وحاجة الوطن ما زالت ماسة إلى وجيه رأيه وصائب نظره وجميل تأتيه، وحميد مسلكه ومسعاه: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً ، إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ .
الملك عبد الله - يرحمه الله - كما يمكن أن يكتب كل إستراتيجي متنور عنه تنبه مبكراً لمخاطر التطرف والأصولية الإسلامية الهدّامة، ووقف وقفة الرجل النصوح المعطاء مع دول عديدة كانت قاب قوسين أو أدنى من الوصول إلى وادٍ غير ذي زرع كمصر ولبنان.. ولمّ شمل التفرقة في دول مجلس التعاون الخليجي، وتنبه للخطر الإيراني ومشروع تفتيت الدول العربية، وتصدى للعديد من المطامع في البحرين.. حاول جمع الفلسطينيين مراراً، فجمعهم في مكة لكي يضمن أن قسم المصالحة لن يخرق.. وكم مرة استقبلنا نحن كمفكرين وأكاديميين ويُسلم علينا الواحد فالواحد تاركاً صورة الأب.. والملك سلمان تملكه هو أيضاً بالمثقفين قرابات فكرية لا تُوصف، حيث يجري على ألسنتهم لقب «صديق الإعلاميين» الذين تعودوا أن يتلقوا اتصالات هاتفية منه، تكون دائماً في الصباح الباكر.