د. عبدالحق عزوزي
في مقابلة للأمير نايف بن عبد العزيز، ولي العهد وزير الداخلية الأسبق - رحمه الله - مع جريدة «السياسة» الكويتية تعود لسنة 2002، قال الأمير: «لم نمر بحالة بطش بمعنى البطش،
بل مررنا بحالة حزم، أي كنا نقضي على أشياء قبل أن تحدث، طبعاً من أسوأ ما حدث لنا أثناء تحملي لمسؤولياتي هو الاعتداء على الحرم الذي أنهيناه في أسبوعين، كان لهذا الاعتداء بوادر لكنها لم تكن تصل إلى حد أنه يمكن فيه الاعتداء على الحرم، وللأسف كانت مراجع المعتدين ومصادرهم من الكويت دار الطليعة التي كانت مصدر كتبهم، وكان إلى جانبهم تنظيمات أخرى منهم من تأثروا بالإخوان المسلمين ومنهم من تأثروا بجماعة التبليغ، لكني أقولها من دون تردد: إن مشكلاتنا وإفرازاتنا كلها، وسمها كما شئت، جاءت من الإخوان المسلمين. وأقول بحكم مسؤوليتي إن الإخوان المسلمين لما اشتدت عليهم الأمور وعلقت لهم المشانق في دولهم لجأوا إلى المملكة، وتحملتهم وصانتهم وحفظت حياتهم بعد الله، وحفظت كرامتهم ومحارمهم وجعلتهم آمنين. إخواننا في الدول العربية الأخرى قبلوا بالوضع وقالوا إنه لا يجب أن يتحركوا من المملكة. استضفناهم وهذا واجب وحسنة. بعد بقائهم لسنوات بين ظهرانينا وجدنا أنهم يطلبون العمل فأوجدنا لهم السبل. ففيهم مدرسون وعمداء فتحنا أمامهم أبواب المدارس، وفتحنا لهم الجامعات، ولكن للأسف لم ينسوا ارتباطاتهم السابقة فأخذوا يجندون الناس وينشؤون التيارات، وأصبحوا ضد المملكة والله يقول {هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}».
وهذا كلام يلخص ما فوق وما تحت حشائش توجهات الجماعات وبعض الأحزاب السياسية الدينية ذات الميولات المتطرفة، وهي التي ولدت وتولد مخلوقات عجيبة وخطيرة ما أنزل الله بها من سلطان مثل داعش والقاعدة، وهي تأتي مجتمعة من عناوين مثل الحاكمية، وجاهلية القرن العشرين، وفتية الإيمان، وغيرها مما تعج بها كتب ومجلدات وأناشيد على مدى عقود... الظواهري تلميذ سيد قطب؛ ويكفيك قراءة كتاب الظواهري «الحصاد المر» لتتأكد من ذلك، وأسامة بن لادن كان قد تلقى بحسب الظواهري تكليفاً من المرشد القطبي مصطفى مشهور للعمل مع الجماعة في أفغانستان.... ويمكن سرد آلاف الأمثلة من ذلك. المشكلة إذن في الفكر وفي المقولات الأساسية التي يرفعها منظرو تيارات تسييس الدين للوصول إلى التطرف والعنف والإرهاب. فلا بد في نظرهم من الحكم بكل التشريع الإلهي بحيث لا يجوز تعديل حكم فيه أو وقف حكم آخر، أو القول بنسبية حكم ما أو وقتية أي حكم، ومن لا يحكم بكل التشريع الإلهي دون ما تعديل أو وقف فهو كافر، والمجتمع المعاصر كله مجتمع جاهلي...
والأخطر والأدهى من ذلك أن أعضاء هاته الجماعات إما أن يصرحوا بذلك علناً أو يلجؤوا إلى التلميح حتى لا تؤخذ بالدعوة إلى قلب نظام الحكم أو اتقاء (تقية) يخفون به ما يضمرون، وهو حديث أشد في تدميره من أي ظهور، والمظهر والمضمر هما في الإرهاب والجرم سواء.
ونشرت «داعش» فقرة مختزلة من نص طويل مروي عن ابن تيمية، في كتاب «الفروع» لأحد تلامذته وهو القاضي شمس الدين محمد بن مفلح (توفي 763 هجرية) محاولة منها لشرعنة إعدامها الشهيد الطيار معاذ الكساسبة حرقاً وهو حي، في 3 فبراير الحالي، رغم أن النص الأصلي تخالف مقدماته ومؤخراته ما اقتبسته «داعش»، وكان سرداً لابن تيمية، وليس حكمه في مسألة قتل الأسير المحارب الكافر والتمثيل به، والكساسبة أسير مسلم، بوصف المدونات الفقهية بالأسير الحربي أو حتى المرتد، حسب منظومة «داعش» الفوضوية، وأحكامه ليست هذا الذي قالت به «داعش»!
والفقرة المقتبسة التي أوردتها خوارج «داعش»، كما يسميهم شيوخهم في «القاعدة» الآن قبل غيرهم، في شريط إحراق الشهيد الكساسبة كانت كما يلي: «فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي التَّمْثِيلِ الشَّائِعِ دُعَاءٌ لَهُمْ إلَى الإِيمَانِ، أَوْ زَجْرٌ لَهُمْ عَنْ الْعُدْوَانِ، فَإِنَّهُ هُنَا مِنْ إقَامَةِ الْحُدُودِ، وَالْجِهَادِ الْمَشْرُوعِ».
نص مقطوع (كما يكتب بحكمة هاني نسيرة صاحب كتاب «من بوعزيزي إلى داعش.. إخفاقات الوعي والربيع العربي»، جريدة الشرق الأوسط الاثنين - 19 شهر ربيع الثاني 1436 هـ - 09 فبراير 2015 مـ). عن أصل يخالفه، وسرد لابن تيمية ينقله الراوي ابن مفلح لا يحمل رأيه، حيث كان كلام ابن تيمية -رحمه الله- عن الحرب، أردفه بحديث عما كان في أحد، خاصة وإذا كان الكفار يقومون بالتمثيل فيكون قصاص المسلمين استيفاء وأخذاً بالثأر، كما كان في أحد، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك في أحد، ومن هنا أردف ابن تيمية بقوله: «والصبر أفضل».. ثم يتبين التدليس حيث لم يذكر الداعشيون الراوي من باب الإيهام بالثبوت عن ابن تيمية، خصوصاً أن النص ليس موجوداً في مجموع الفتاوى أو غيرها، وموضعه في كتاب ابن مفلح «الفروع» بعد أن تجاهلوا عنوان الفصل وما يرجحه ابن مفلح نفسه من عدم جواز قتل الأسير، ونورد النص كاملاً حتى يتبين اللبس والتدليس، يقول ابن مفلح في «الفروع»:
«قَالَ شَيْخُنَا (يقصد ابن تيمية): الْمُثْلَةُ حَقٌّ لَهُمْ, فَلَهُمْ فِعْلُهَا لِلاسْتِيفَاءِ وَأَخْذِ الثَّأْرِ، وَلَهُمْ تَرْكُهَا وَالصَّبْرُ أَفْضَلُ, وهذا حيث لا يكون في التمثيل زِيَادَةٌ فِي الْجِهَادِ, وَلا يَكُونُ نَكَالاً لَهُمْ عَنْ نَظِيرِهَا، فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي التَّمْثِيلِ الشَّائِعِ دُعَاءٌ لَهُمْ إلَى الإِيمَانِ، أَوْ زَجْرٌ لَهُمْ عَنْ الْعُدْوَانِ، فَإِنَّهُ هُنَا مِنْ إقَامَةِ الْحُدُودِ، وَالْجِهَادِ الْمَشْرُوعِ، وَلَمْ تَكُنْ الْقِصَّةُ فِي أُحُدٍ كَذَلِكَ. فَلِهَذَا كَانَ الصَّبْرُ أَفْضَلَ، فَأَمَّا إذَا كَانَ الْمُغَلَّبُ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى فَالصَّبْرُ».
كذلك تجاهلت «داعش» ما سبق هذا النص بسطر واحد، وفي الصفحة نفسها، من رأي وموقف إمام المذهب أحمد بن حنبل -رحمه الله- (توفي 241 هجرية) من أنه لا يجوز تعذيب الأسير، وأنه إن مثل به أحد المسلمين كان جزاؤه التمثيل مثله! يقول ابن مفلح: «قَالَ أَحْمَدُ: وَلا يَنْبَغِي أَنْ يُعَذِّبُوهُ. وَعَنْهُ إنْ مَثَّلُوا مُثِّلَ بِهِمْ». هذا رأي إمام المذهب قبل رأي ابن تيمية بسطر واحد يتجاهله الداعشيون، فقد قال في حكم من يمثل بالأسير أن يمثل به!..
إذن انطلاقاً من التفسيرات الخاطئة والمقولات الضالة تعتقد الجماعات المتطرفة أن لها حق الوصاية على الناس أجمعين، في محيطهم الضيق كما في المجتمع العالمي بأسره، بحكم الأفضلية أو بوحي من الله عز وجل، وأن لها بناء على ذلك حق فرض ما يعتقدون على ممثلي الجاهلية حسب زعمهم مستبيحين أرواح الناس وأموالهم وأعراضهم....
في منتصف العصر الإسلامي عندما بدأ الاجتهاد يتوقف والعقل الإسلامي ينحدر إلى غيابات الجمود، ذكر أبو حيان التوحيدي (المتوفى سنة 1010م، ويكمن الرجوع إلى ذلك بتفصيل في كتاب تاريخ التشريع الإسلامي للأستاذ الشيخ محمد الخضري) أن المجادل والمناظر والمعترض يبدأ من الإيمان الزائغ بفرقة معينة أو إمام بذاته أو مرشد عام أو تيار حركي أو فقيه مغرض ثم يطوع فهمه لما آمن به - وهو زيغ، ويشكل رأيه لما أعتقد فيه - وهو خاطئ، ويفسر تفسير الآيات والأحاديث لما يريد أن ينتصر له وهو ضال. وفي التعبير عن ذلك الواقع المشين قال أبو الحسن عبدالله الكرخي وهو من طليعة فقهاء الحنفية: «كل آية تخالف ما عليه أصحابنا فهي مؤولة أو منسوخة، وكل حديث كذلك فهو مؤول أو منسوخ» فما أشبه الليلة بالبارحة، و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.