ليس اليوم كالبارحة، فزمن اليوم زمن السرعة، من تأخر فيه تخلف عن الركب.. ومن تخلف عن الركب، تأخر، ومن تأخر أمسى طعام الوحوش والسباع. وركب الأمم اليوم، ركب يسير على جناح الريح في تكيفه النوعي والكيفي مع المتغيرات السريعة المتقلبة.
وقد سخّر الله لهذه البلاد ملوكاً، أتى بهم في أوقاتهم ليؤدوا ويوفوا بالأمانة التي حُملوها حتى إذا وفوا بعدهم وأدوا أمانتهم اختارهم الله لجواره. وقد كان عهد الملك الصالح، عبدالله بن عبدالعزيز، عهداً مليئاً بالمتغيرات الداخلية والخارجية، والتي أحسن -رحمه الله- سياستها وتوجيهها والتعامل معها بحكمة ووفاء، متجاوزاً -بالبلاد- لعقبات ثغرات الزمن حتى ثَبّتَ الحقبة الثانية لمُلكها إثناء قيادته للديار السعودية التي أوصلها موحدة لبوابات عهدها الجديد، ثم أرتحل بعد أن قام بواجبه أحسن قيام وأروع أداء، مُسَلماً أمانته وأسرته الحاكمة وشعبه وبلاده لأخيه المليك المحبوب سلمان بن عبدالعزيز.
وسلمان، سلمان الوفاء والصدق. وسلمان، سلمان المُلك والحزم. فلأجل الوفاء بالملك الصالح والصدق مع السعوديين ومن أجل تأكيد رسوخ الملك وقوته وثباته بمقرن وابن نايف، جاء الحزم سريعاً في التعيينات والقرارات الإدارية. فعز وقوة الخلافة عند رحيل الفاروق مكّن عثمان رضي الله عنه من التغيير والتبديل السريع للولاة والأمراء. وضعف الخلافة عند رحيل عثمان أعجز علي رضي الله على تغيير منظومته الإدارية سريعاً دون خروج الولاة فانفجار الفتنة العظيمة.
ومن الطبيعي أن يتأخر بعضٌ قليلٌ من أفراد الشارع السعودي عن اللحاق بالقفزة التقدمية الفكرية التي فرضها الملك المحبوب فرضاً تعليمياً، بجعلها واقعاً تطبيقياً من أول ساعة نودي فيها بالملك المحبوب ملكاً على البلاد. فالتغييرات الإدارية الهائلة التي تمت سريعاً، تُمثل رقياً فكرياً عالياً في الإدارة الحكومية، قد يصعب على البعض فهمها وفهم أصولها وأسبابها وأبعادها من أول وهلة.
ولهذا وللأسف، أنجرفت أقوام قليل عددهم، كبير فعلهم في خوارم المروءة، فرددوا بعض إشاعات الحاقدين المُفسرة لهذه التغييرات فأنزلتها في غير منازلها، فوقعوا في رجال صدق خدموا مليكهم الصالح -رحمه الله- وخدموا البلاد والعباد.
حزم الملك المحبوب في قرارته فيها علمٌ وعهد. فهي تعليم لأبنائه السعوديين: أن الزمن الذي كان يتطلب التريث والتدرج في التغييرات الإدارية والقيادية قد انتهى بزوال ذرائعه، وأننا اليوم في زمن يتطلب الحزم في التغيير والتبديل الإداري أينما كان وحيثما اتفق مع سببه الأنسب له. وفي الحزم بهذه القرارت كذلك، عهد ووعد بحلول أوان وضع البلاد في حلبة سباق الأمم على التطور والازدهار.
فالأمم المتطورة المتقدمة قد سبقتنا بعقود، بل بقرون في مرونتها الإدارية. ولهذا حققوا قفزات هائلة في مجال التطور والنمو. فلكل رجل ميزة تنافسية ولكل شخص مهمة يصلح لها. فإذا ما جاءت ميزته أو مهمته جاء القرار بتعيينه، فمتى أدى مهمته جاء القرار بتغييره. فالهدف ليس الأشخاص، بل ثبات عز وسؤدد المملكة العربية السعودية هو الهدف الأسمى والأعلى. والذي لا يتحقق في ظل المنافسة العالمية إلا بالمحافظة على زخم تطوير البلاد، بل والإسراع بها لتسبق الأمم. فبلادنا قائمة ثابتة لا تتغير، وأبناؤها يروحون ويأتون في خدمتها، يزدادون شرفاً ورفعة في رواحهم وفي إتيانهم.
فما أُتهم خالد بن الوليد في عزله، ولم يُسائل الفاروق أحد عن عزل سيف سله رسول الله. فأمير المؤمنين هو ولي الأمر، فله خاتمة حسم القرار، فهو حامل الأمانة والمسؤولية. وقد رأى الفاروق أن خالداً لم يعد مناسباً لقيادة الجيش الإسلامي الفاتح.. فحدة سيف خالد كانت مناسبة في حال نشأة الدولة الإسلامية أيام ضعفها وفي حال إخضاع المرتدين.. ولكن ميزة خالد التنافسية هذه لم تعد قائمة، فحدة سيفة ما كانت قط عيباً وعاراً له من قبل ولا من بعد. فالزمن زمن الفتوحات العظيمة التي يغلب فيها عطف سيف أبي عبيدة، لكسب القلوب وتحبيب الناس في الإسلام، لا حدة سيف خالد. فكان أول عمل عمله الفاروق عند توليه عزل خالد.. نعم، غمد الفاروق سيفاً سله الله ورسوله، فقد زالت ذريعة استلاله، وأمست وهي ذريعة لغمده.
ولو نظرنا لتاريخنا المعاصر، فما أكثر الأمثلة والشواهد في الأمم المتقدمة. فهذا تشرشل قاد البريطانيين للنصر في الحرب العالمية الثانية فما أن وضع سلاحه، حتى عزله قومه. فقد انتهت مهمته المناسبة له بنهاية الحرب، حتى إذا جاء الزمان بدور يصلح له في خدمة بلاده أعاده قومه لقيادتهم، ولم ينل منه سفهاء قومه لا في عزله ولا في عودته.
والحكومات في العالم المتحضر المتقدم جميعاً، تأتي لسدة القيادة بتغييرات وزارية شاملة، بل ولا ينتهي عهد ولاية الرئيس إلا وقد تبدل كثير من وزرائه.
ولا يترفع الرجل الشريف عن خدمة بلاده، سواء أعاد مرؤوساً بعد أن كان رئيساً أو عاد مرؤوسه رئيساً عليه. فهذا سيف الله خالد بن الوليد عاد جندياً في جيش أبي عبيدة، بعد أن كان القائد الأوحد العظيم الذي لا يهزم، والسيف الذي لا ينكسر.
ومن الأمثلة القريبة في الزمان والحال، توزير رامسفيلد وزارة الدفاع كأصغر وزير للدفاع في التاريخ الأمريكي وهو لم يتجاوز الثلاثة والأربعين عاماً، وخرج من الوزارة ليعود إليها بعد ذلك كأكبر سناً لوزير دفاع أمريكي. وما منعه عداؤه لبوش الأب لأن يصبح وزيراً عند ابنه بوش الابن. فالأمم المتقدمة تخدمها أبناؤها أينما وحيثما وكيفما اتفق الزمان والسبب مع مصلحة الوطن. وما انقلب الحال، فأصبحت الأوطان تخدم الرجال، ضاعت حينها الأوطان والرجال والأعراض والأموال.
وإن مثل سياسة المنظومة الإدارية في إدارة الدول، كمثل الشجرة المورقة، ومثل نتاجها كمثل ثمارها ومثل جذورها كمثل دستورها وعصبتها التي قامت عليه الدولة. فالأوراق تتبدل لصلاح الثمر والأصل، وكذلك الغصون تُقطع لصلاح أصل الشجرة. وأما الجذع وما تفرع منه في أهميته فهو الأصل لا يتغير ولا يتبدل. فبقاؤه بقاء الكل وذهابه ذهاب للكل. وكما أن الأشجار تختلف وتتنوع، وما يصلح لشجرة لا يصلح لغيرها، فكذلك هي المنظومات الأدارية للدول. فلله الحمد والمنة، فأصل المنظومة الإدارية للمملكة العربية السعودية اليوم قد ازداد صلابة وقوة بعضده بعضد ثالث.
فأصل المنظومة الإدارية اليوم للمملكة العربية السعودية اليوم هم: الملك وولي عهده وولي ولي عهده. فالمنعة والقوة في أزدياد بازدياد قوة الأصل، فما عدا يضر منظومتنا الإدارية رياح ولا عواصف ولا فساد غصن أو ورقة. فالأوراق تتبدل سريعاً والأغصان المُكسرة تعوض سريعاً فقوة الأصل وثباته هو قوة للفروع وفروع الفروع وللورق والبراعم. فقوة الأصل وثباته هو المُبتدأ والمنتهى لطيب الثمرة وغزارة خيرها وكثرة عطائها. والحمد الله، فبلادنا بقعة مباركة، فلعل الله سخر لها شجرة مباركة، فالبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه.