عبد الرحمن بن محمد السدحان
* تبقى سيرة معالي الدكتور غازي القصيبي، رحمه الله، عطراً فواحاً بالفكر والإبداع، يتقاسم عطاءه عقلُ الحكيم ووجدانُ الأديب وشفافيةُ الإنسان.
* * *
* وقد حرّضني لكتابة هذه المقدِّمة محاضرة بعنوان (نحو استراتيجية موحّدة لمكافحة البطالة)، تلاها معاليه - رحمه الله - مكتوبةً على أسماع حضور مهيب، جاءوا بدعوة من جمعية الاقتصاد السعودي قبل أحد عشر عاماً تقريباً بتاريخ 21 /11 /1425هـ، بمركز الملك فهد الثقافي، بالرياض، وأدار اللقاء صاحب السمو الملكي الأمير عبد العزيز بن سلمان بن عبد العزيز، نائب وزير البترول والثروة المعدنية الرئيسُ الفخري للجمعية الاقتصادية سالفة الذِّكر.
* * *
* طرح الدكتور القصيبي في سبعِ صفحاتٍ سمان رؤيةً جريئةً ودقيقةً عن البطالة في المملكة، أحسبُها بدَّدت كثيراً من سُحب الشك والتشكيك والتأويل بلا علم ولا يقين عن هذه الظاهرة وآلية التعامل معها، وبزّت رؤيتُه - رحمه الله - مصنّفاتٍ أكاديميةً (مثَّخنة) بأدبيات البحث وإحصاءاته وتوصياته!
* * *
* حذّر المحاضر الكبير بكلمات قوية ومباشرة من الانحراف في الخيال أو الإغراق في التفاؤل، في وصف مشكلة وطنية كهذه، مؤكداً أنّ الحديث عنها: (.. لا ينبغي أن يكون عما نتمنّى أن يكون، أو ما نتمنّى لو لم يكن، ولكن يجب أن يكون حديثاً عمّا هو أمامنا وعما يجب علينا فعلهُ للتعامل معه..)!
* * *
* وبهذه الكلمات التي لا تعوزها الصراحة، نزع المحاضر (فتيل) بعض (مفرقعات) التهم الإعلامية التي تتردّد أحياناً عند الحديث عن بعض القرارات المتصلة بالبطالة، تارة، تصفها بـ(العشوائية)، وأخرى بـ(الوثبات الإدارية الخارقة)!
* * *
* طرح المحاضر على الأسماع (وصفةً) إدارية ذات أربعة محاور:
أولاً: إيقاف طوفان الاستقدام بتخفيضه ما أمكن مع رفع تكلفته.
ثانياًَ: تكثيف برامج التدريب الفعّال للسعوديين، تتقاسمُ الجهدَ فيه الدولةُ والقطاعُ الخاص، مع اشتراط أن تكون مخرجاته ملائمة لاحتياجات هذا القطاع.
ثالثاً: تنشيط (ثقافة العمل) وأخلاقياته لدى الشباب السعودي عبر جرعات مكثفه من التدريب، آخذاً بعين الاعتبار أنّ تلك الثقافة قد تأثّرت سلباً ببعض مخرجات الطفرة الاقتصادية التي شهدتها بلادُنا خلال عقديْ السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، وكان لها تداعيات سلوكية وأخلاقية ضمرت بسببها الرغبةُ في العمل والالتزامُ به!
* * *
رابعاً: إيجاد بيئة عمل نظامية ومادية ونفسية ملائمة للمواطن السعودي تحفزه للعمل ولا تصرفه عنه أو تزهَده فيه، بدءاً بالراتب المناسب، وانتهاءً بالأمان الوظيفي.
وأحسب أنّ التعامل مع هذا المحور وحده يمكن تحقيقه عبر مراجعة أمينة ودقيقة لنظام العمل الحالي، وكشف ثغرات القصور فيه، إضافة إلى اللوائح والقواعد التنفيذية له، بحيث يستوعب مشكلات ربّ العمل وطالبه على حدٍّ سواء.
* * *
* وبعد..,
* فقد وضع معالي الدكتور غازي القصيبي - رحمه الله -، عبر ورقته المتقنة، بلاغة وعرضاً، (مبضَع) الحكمة على الجرح النازف داخل أروقة الوجدان الوطني فيما يتعلق بمشكلة البطالة، تشخيصاً وعلاجاً، إذ وصفها بأنها ناتجة عن الخلل المستبد في معادلة العمالة، بشقّيها الوطني والأجنبي، فهناك ما يشبه (الطوفان) في الاستقدام بتكلفة رخيصة، يقابله بوادر (طوفان) من نوع آخر، قوامه شباب مؤهلون أو شبه مؤهلين يبحثون عن العمل فلا يجدونه، وإذا وجدوه لم يرقَ إلى مستوى توقعات كثيرين منهم، فيعزفون عنه، ويكون (الوافد) هو البديل الأكثر يُسْراً! وتغدو بذلك البطالة والاستقدام خياريْن أحلاهما الأمرّ!.