د. عبدالرحمن الشلاش
يجلس على أريكته الوثيرة ممسكاً بالريموت كنترول. يقلب في آلاف القنوات الفضائية وفي يده الأخرى يقبض بإحكام على جهاز هاتفه المحمول، متجولاً بين مواقع التواصل الاجتماعي وعشرات البرامج المتضمنة في جهازه الصغير الذي لا يتعدى حجمه راحة كف اليد. بين فينة وأخرى يتسلى بما وضع أمامه من شاي وقهوة وحلى وفطائر ومكسرات، متناولاً ما لذ وطاب من شراب وطعام يملأ معدته منها دون حساب. لا يجد التعب سبيلاً إلى جسده إلا حين يهم بالتقلب ذات اليمين وذات الشمال. على مرمى خطوات من موقعه يتسمر السائق بجانب السيارة بانتظار خروجه في أي لحظة. الشغالة تقف على أطراف قدميها في وسط المنزل منتظرة صدور الأوامر من الكبار والصغار. كل فرد من أفراد الأسرة يقبع في زاوية من الغرفة أو في طرف قصي من البيت الكبير متواصلاً مع من يشاء وقاطعاً حبال الود مع من لا يريد.
رغم تقلبه في النعم والخيرات لا يكف عن التأوه كلما سنحت في خاطره ذكرى من تلك الأزمنة الخوالي ليجتر الماضي ويستدعيه بكل تفاصيله. يردد بصوت مسموع آه على أيام البساطة والتقارب والتواصل بين الناس. وآحسرتاه على الأخوة والمودة وساعات الصفاء! أين نحن من زمن الطيبين وكأن هذا الزمن قد ارتبط بشرار الخلق فغدا زمن الأشرار ولم يعد للخير فيه مكاناً! أو كأن هذا الكائن الإنساني من صفوة الطيبين الخيرين ووجد نفسه فجأة في الزمن والمكان الخطأ. أما زمن الطيبين فهو زمنه. يتذكر تلك الرحلات في البراري ولعب الشباب في الحواري والمزارع والبساتين. يتلذذ حين تعود به ذاكرته لأيام البراءة ومرابع الأحباب والخلان ومن فرقتهم ظروف الحياة.
لكن يا ترى لو عاد هذا المنغمس بالنعم إلى الماضي حيث الزمن الجميل كما يردد في أهزوجته اليومية التي لا يفتأ يذكرها، فهل سيصبر فيه لحظة؟ هل سيركب في حوض سيارة الداتسون تكسر المطبات عظامه؟ وهل سيبيت ليلة دون مكيف؟ هل سيجلس لثواني في لهيب الصيف يحرك المروحة اليدوية «المهفة» يميناً وشمالاً طلباً لنسمات ساخنة من هواء الصيف المطبوخ بالحرارة الشديدة؟ هل سيجلس على الحصير ويبعث رسائله بالبريد ويتواصل مع الناس بتلفون «أبو هندل» ومأمور السنترال الذي يتركه لساعات ينتظر حتى يربطه بمن يريد؟ هل سينام بدون عشاء ولا يأكل اللحم إلا في المناسبات. يعيش شبه مقطوع عن العالم لا يدري بما يدور حوله لأن انتقال الأخبار من مكان لآخر قد يحتاج لأسابيع أو شهور؟
صحيح أن أجمل ما في ذلك الزمن أنه رحل ولن يعود، لذلك نتحسر عليه وبقيت ذكرياته عالقة في الأذهان، وأهلنا الذين رحلوا دون عودة، وعمر الشباب ونشوة أحلام البدايات الوردية، وملاعب الخلان والولايف، وخلو الذهن وصفائه، والبساطة في ذلك الزمن، لكن قسوة الزمن الماضي وشظف العيش وقلة الحيلة وندرة الفرص وبدائية الوسائل ومحدودية المصادر المعرفية جعلت منه زمناً صعباً يستحيل أن يفكر أحدنا في العيش بتلك الظروف!
تذكر الماضي محبذ لأخذ العبرة لكن الإيجابية تفرض علينا أن نعيش زمننا الحالي مستمتعين بكل تفاصليه، لأنه سيصبح يوماً ما زمناً ماضياً جميلاً نستدعيه ونتحسر عليه ليصبح أهزوجة جميلة لنا وللأجيال من بعدنا.