(الإِنسان وجود مريب)
- ميشال فوكو
(1)
في لقاء وحيد جمعني ومجموعة أصدقاء بالشاعر الراحل سعيد عقل، وجه أحد الأصدقاء سؤالاً إلى الراحل عما إذا كان يحقد على منتقديه الذين يتوزعون على صفحات الصحف ويملكون قوة أدبية وفكرية هائلة. فقال وقتها سعيد عقل انه تعلّم ألا ينام ليله ُممَّداً حقده إلى جانبه. أي أنه يقرأ لهم ولا يحقد عليهم، لا من أجلهم، بل من أجل نقاء نفسه والحفاظ على سلامتها من أراض الحقد والضغينة.
والحق، أن الدرس الأول الذي على الكاتب أو الأديب (إذا كان كاتباً وأديباً) حين ينشر أعماله أن يتأكد، أن هذه الأعمال قد لا ترضي كثراً ممن يعرفون أقل أو يعرفون أكثر. بالحقيقة، فإنَّ مهمة النقد وبالتالي وظيفة الناقد للأعمال الأدبية، عدم الإضاءة فقط، على عبقرية الكاتب وندرته بين البشر. هكذا لا يستقيم منطق النقد، الذي عليه أن يبدأ ذاتياً، عند الكاتب نفسه، ثم ينسحب على عمل الناقد الذي واحدة من أسمى مهامه القراءة والدرس والمقارنة قبل إبداء الرأي وكتابته ومن ثم نشره. إذاً والحال هذه، يصدر عن الناقد وجهتا نظر. فإما أنه يكتب رأياً يلاطف من خلاله الكاتب، حتى لو لم يصل لمديحه واعتباره عبقرياً أو حتى تعزيز الإيغو (الهو والأنا والأنا العليا - seconde topique) عند الكاتب الذي يتضخم رويداً رويداً حتى ينفجر بعدها. وإما يذهب للتحدث بموضوعية تصل إلى حد القسوة على النص الذي بين يديه لا على الكاتب. هنا، على الأغلب، في العالم العربي، نصل إلى صدام حقيقي مع الكاتب الذي يُعدّ أن الهجوم على كتابه، هجوم عليه شخصياً، وأن هذا الكتاب إن لم يكن هو فأحد أبنائه. واقعياً، في العالم العربي، نحن أمام عدد كبير من النماذج، من الكتاب، الذين يسفهون النقد إن لم يكن للمديح ورفع المعنويات. في حين أنهم، أول من يطالب بالنقد ويشتكي من غياب النقد الجدي في الصحافة العربية على مثال الغرب الذي يمتاز مناخه الثقافي بالنقد لكن أيضاً بحس ديمقراطي يتقبل النقد، حتى لو كان قاسيا ومهشماً للعمل الذي يتناوله.
(2)
إن قصور بعض الكتاب عن تقبل النقد، حين يكونُ موضوعياً واقعياً، يدخلنا إلى مشكلة أخرى، تتعلق بصلب النظام التربوي الأبوي البطريركي بحسب هشام شرابي. ذلك أن غياب الديمقراطية كمنهجٍ واضح في الحياة العامة، ينسحب طوعاً على فئة المثقفين التي تمثل جزءاً يسيراً من الاجتماع العام. فالروائيون الذين يعتقدون أنهم يشقون طريقاً في كتاباتهم عكس مسار الاستبداد الاجتماعي والسياسي. ويظهرون تحرراً مشاكساً لحركية المجتمع الذي ينتمون إليه، ثم، يرفضون ديمقراطية النقد، ويبادلون النقد العداء والضغينة والحقد، لم يتخففوا حقيقة من أحمال الاستبداد الذي يعشش في ذواتهم، كما أنهم، أيضاً، يناقضون أنفسهم المريضة المثقلة بالحقد والبغضاء، تماماً كما هي مثقلة بالغيرة الشديد المرضية.
إن المشاكل التي على الروائي أن يتخفف منها، ويتحول إلى مادة قابلة للنقد، ليس أولها النرجسية ولا آخرها رواسب الاستبداد. بل الاحتكام لحقيقة أن على النقد تناول أعمالهم باعتبارها، عند نشرها، أصبحت ملكا عاماً لا خاصاً، وكل عام هو عرضة للنقد. فسواء أعجبنا ذلك أم لم يعجبنا، فإنَّ النقد الحقيقي، الذي تنشره الصحافة الثقافية، هو بالغالب نقد تسويقي للأعمال الأدبية والفكرية. وحين يتحول إلى نقد جدي وموضوعي، يبدأ بأخذ المنحى الأكاديمي الفكري. لكن وبما أن الصحافة الثقافية، مساحة نقاش وتبادل للآراء، لا ضير أن يكون النقد موضوعياً وهذا أفضل بكثير من تحوله إلى مادة مدائح بين الأصدقاء والمعارف. غير أن الغالبية الأعم من الكتاب في العالم العربي لا تتقبل نقداً موضوعياً لأعمالها.
(3)
يهمني في هذه العجالة القول، إن على الصحافة الثقافية، أن تبطلَ كونها منبراً للإخوانيات، وتتحولُ تدريجياً، إلى مساحة نقاش وسجال حقيقية، تأخذ بالاعتبار، فتح المجال أمام الجميع للتعبير عن آرائهم بديمقراطية مفتوحة وليس مساحة للملل. وفي هذا المجال، خصوصاً النقد الذي يتوجه للكتب (رواية، شعر، فكر، فلسفة.. إلخ) يجب الاطلاع على تجارب هامة كما الماغازين ليتيرير وبوك (Book) المخصصتان لعرض الكتب نقدياً، وهما، مرجعيتان فعليتان في النقد لما ينشر على متنيهما من نصوص نقدية جدية وموضوعية لا تستجدي الرضا من صاحب الكتاب المشرح نقدياً، بقدر ما تتطلع لعيون القارئ المثقف الذي عليه بالطبع القراءة والمقارنة وكشف مقدار الموضوعية في النقد.
يفضي هذا إلى خلق عملية تآلف وإتلاف بين النقد والقارئ قبل أن يكون بين النقد والكاتب صاحب النقد محل التشريح النقدي. ذلك أن الناقد، حين يتوجه في رأيه للكاتب صاحب النص، فإنه يعلي من شأن الكاتب حتى لو كان النقد قاسيا، بينما يفعلُ توجهه للقارئ فعلاً مزدوجاً، يعلي من شأن النقد ويضع الكاتب صاحب النص في مرتبة خلفية تذيب الكاتب نفسه وتحولُ نصه إلى مادة لسجال ثقافي واجتماعي لا ترده ضغينة ولا يلغيه حقد ولا تحاربه العقليات الاستبدادية لروائيو الفشل المستديم.
- سيمون نصار