شاء الله تعالى أن أعايش وأعاصر تغير بعض المسؤولين، وتقاعد بعض المديرين، وإحلال آخرين محلهم. وهذا من السنن الكونية، ومن طبيعة الأعمال الإدارية؛ فلا يدوم شيء على حال إلا وجهه الكريم. يموت أشخاص، ويولد آخرون، ويترك أشخاص مناصب، ويحل محلهم آخرون.. وهكذا دواليك إلى ما شاء الله. وهذا يعطينا من الدروس والعِبر ما يجعل كل واحد في أي منصب أو إدارة أو موقع يقدم من الأعمال الصالحات، وإتقان العمل، وإجادة المسؤوليات، ما يجده مدخراً عند الله - تعالى -، وذلك بالإخلاص وابتغاء وجه الله - تعالى -. هذا أولاً، وبعد ذلك نفع الناس، وإحسان العلاقة بينه وبين زملائه من المسؤولين، وبينه وبين الموظفين، سواء الذين هم في إدارته أو في الإدارات الأخرى، والتحلي بمكارم الأخلاق؛ لأنه لا محالة سيتركه المنصب، أو يترك هو المنصب، ولا يبقى بعده إلا الذكر والسمعة، فطوبى لمن إذا ذكره الناس أثنوا عليه، ودعوا له، وبؤساً لمن ترك منصبه والناس يذمونه.
وقد رأيت الموظفين في تعاملهم مع المسؤولين على صنفين:
الصنف الأول: تجده كالذهب الخالص، لا يتغير، ولا يتبدل مع تغير المسؤولين. وهؤلاء هم المتقنون لأعمالهم، القائمون بمسؤولياتهم على الوجوه الصحيحة، فيتركون المجال لأعمالهم ومنجزاتهم أن تتحدث عنهم؛ فهم رجال أعمال وأفعال، وليسوا رجال تملق وأقوال، ويتضح المجدون العاملون الصادقون الأوفياء، الذين يعتمد عليهم المسؤولون، فلا يصح إلا الصحيح. والمسؤولون الأذكياء يميزون بين الغث والسمين، ويعلمون أنهم في حاجة إلى من يحملون المصداقية والإخلاص، وإلى الأكفاء من ذوي العلم والخبرة، لأداء رسالتهم على الوجه الصحيح. قال الله تعالى: {فَسَيَرَى اللّه عَمَلَكُمْ وَرَسُولُه وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (105) سورة التوبة.
الصنف الثاني: تجدهم كالحرباوات، يتغيرون مع كل تغيير، ويتلونون بكل لون. وهؤلاء في الغالب هم من المتسلقين على أكتاف غيرهم، ومن المستغلين لجهود غيرهم، ليسوا من ذوي الكفاءة، ولا من ذوي الأعمال والمنجزات، فتجدهم يتقربون إلى المسؤولين بكل طريقة وسبيل، بل يسلكون في ذلك وسائل في غاية الانحطاط، تصل إلى الغيبة، والنميمة، واختلاق الكذب، والافتراء على الزملاء، وتشويه سمعة غيره.. وهؤلاء في الغالب كفقاعات الصابون، تبدأ متلألئة مرتفعة، ثم لا تلبث أن ينفضح أمرها بعد أن تنزاح الأقنعة. فضلاً عن لؤمهم وجحودهم. وهم بذلك يعبرون عن بيئتهم التي يعيشون فيها، وتربوا عليها. فمثل هؤلاء سرعان ما يسقطون، وتجدهم في قلق واكتئاب دائم؛ لأنهم لا يحملون الخير، وعاشوا على الأنانية والنفاق والانتهازية مع الكذب والخداع.
قال تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّه الأَمْثَالَ}.. والله ولي التوفيق.
)) كلام من ذهب لابن المقفع:
«فإن الوالي لا علم له بالناس إلا ما قد علم قبل ولايته، أما إذا ولي فكل الناس يلقاه بالتزين والتصنع، وكلهم يحتال لأن يثني عليه عنده بما ليس فيه، غير أن الأنذال والأراذل هم أشد لذلك تصنعاً، وأشد عليه مثابرة، وفيه تمحلاً».