كما يكتب الأستاذ عبدالعزيز سعود البابطين، فالأساس في نهضة أي مجتمع ليس الموارد التي يمتلكها مهما كانت وفرتها؛ بل في استخدام العقل وإطلاق إمكاناته المدهشة،فهو الذي بإمكانه أن يفك شفرة هذا الكون،
ويجعل من الطبيعة كتابا مقروءا، وهو الذي حول الإنسان من قاطف للثمر وصائد للحيوانات إلى زارع وصانع، أي من متكئ على ما تقدمه الطبيعة له، إلى مكتشف لثرواتها الكامنة.. من مُتَّبِع يكرر نفسه، إلى مبدع يتجاوز نفسه ومحيطه في كل لحظة. وإبداع الإنسان يتمثل في اتجاهين: الإبداع العلمي، والإبداع الثقافي، فالعلم والثقافة مكونان أساسيان لأي حضارة إنسانية. والعلم بما يوفره للإنسان من قدرة متزايدة، ومن ثراء مادي، قد يميل بالإنسان إلى الغرور، والانتشاء بالقدرة المتزايدة والثروة ليوظفهما في التعالي على الآخر ومحاولة تهميشه واستغلاله، فيتحول العلم بذلك إلى قوة عدوانية مدمرة. أما الثقافة فهي القوة الناعمة التي تتغلغل بلطف في أحشاء الكون لتصغي إلى نبض الكائنات وصوتها الخفي، وتكشف حقيقتها المستورة.. الثقافة تقيم علاقة إخاء مع الطبيعة، فهي تُؤنْسِنُها وترى في كل مظهر من مظاهرها عظمة الخالق وروعة المخلوق، وهي بهذه العلاقة المتوازنة تعزز قيم الإنسان وانفتاحه على الآخرين، والاحترام لكل كائن، وتحدّ من إمكانية تحول قوة العلم إلى قوة صادمة متوحشة.
وفي هذا الصدد، افتتح الدكتور عبد العزيز الخضيري وزير الثقافة والإعلام السعودي مؤخرا بالرياض أعمال الدورة التاسعة عشرة لمؤتمر الوزراء المسئولين عن الشؤون الثقافية في الوطن العربي، بمشاركة أكثر من 30 دولة وجهات ومؤسسات معنية باللغة العربية وثقافتها.
وأعلن وزير الثقافة والإعلام السعودي في كلمة له أمام الحضور، «نناقش همنا الثقافي العربي في ظل متغيرات متباينة في منطقتنا العربية، ليأتي الحديث عن مستقبل لغتنا العربية منطلقا للتكامل لنصل إلى الآخرين برسالة سامية مصدرها هذه اللغة بمفهومها ووظائفها واستخداماتها وإسهاماتها في الثقافات الإنسانية من خلال أربعة محاور أساسية».....فالتحولات العميقة التي يشهدها العالم اليوم تؤكد أنه لا بديل عن التميز الثقافي والعلمي لدخول ساحة المنافسة العالمية، مما يستدعي صياغة سياسة ثقافية تهدف إلى إبراز الطاقات الإبداعية العربية، وتنويع حقول وفضاءات العمل الثقافي، والاستفادة من المثقفين الكثيرين الموجودين في كل مكان وموقع في البلاد العربية، في زمن بات في أمس الحاجة فيه إلى الثقافة رباطا وتأصيلا لكياننا ولهويتنا، فالثقافة تعد جزءا حيويا من مكونات الإنسان وحاجاته الأساسية، كما أن اختيار اللغة العربية منطلقا للتكامل الثقافي الإنساني، يجدد التأكيد على المبادئ الأساسية التي نصت عليها الخطة الشاملة المحدثة للثقافة العربية، وهي ارتكاز النهضة العربية الشاملة المنشودة على رؤية علمية ونقدية للواقع بمستوياته المحلية والإقليمية والعالمية، مع ضرورة التفاعل مع العصر والفكر الآخر، لا الاكتفاء بالاستعارة منه وتقليده.
وكوزراء مجتمعين ومعنيين بالثقافة والأدب فإن لهم مسؤولية تاريخية وحضارية من خلال تحديث العقد العربي للتنمية الثقافية وإحداث مجلس وزراء الثقافة العرب ودراسة الخطة الشاملة المحدثة للثقافة العربية تلبي تطلعات أمتنا العربية والإسلامية...
ولا غرو أن الاصطفاف العربي لم يعد اليوم إلا في حدوده الدنيا، والتماسك العربي لم يعد من أولويات العمل السياسي لبعض الدول، والصف العربي أضحى ممزقا، وأحدثت شروخا عميقة في جدرانها وانفصاما بينا في جوانب شخصيتها، وهذا التمزق يحمل الخبث كله والشر المستطير.
فالثقة التي تحكم التجمعات الإقليمية بدأت تتلاشى، وبتعاظم فقدانها تكثر المشاكل الداخلية كما يتقوى عدد المتدخلين الأجانب... كما أن الهجمات المتتالية الداخلية والخارجية تقوض كل دعائم الوحدة والقوة والمناعة التي تسمح لأي نظام إقليمي بمجاراة الدول الكبرى وتأثيرات النظام الدولي....فمحنة العرب هي هي للأسف الشديد. هيغل كان يقول بأن التاريخ يعيد نفسه مرتين وأيده كارل ماركس الذي أضاف بأنه يعيد نفسه المرة الأولى على شكل تراجيديا وفي المرة الثانية على شكل كوميديا...وأظن أنه يعيد نفسه دائما في وطننا العربي بشكل تراجيدي وكوميدي مؤلم للعرب ومضحك للغربيين.
بعد نهاية الحرب الباردة كانت محنة العرب، كما كتب غسان سلامة، هي تماما في تلك الإشكالية المستمرة القائمة من جانب، على تواجدهم في موقع حساس بمعطياته الجغرافية والاقتصادية والدينية، ومن جانب آخر على تواضع عناصر القوة التي بحوزتهم للدفاع عن ذلك الموقع ولتعظيم الفوائد منها. لذلك كان تأثرهم بالحرب الباردة كبيرا يكاد يقترب من تأثر أوروبا بها، كما رأينا في تلك الفترة تأثرهم بالتحول الجاري نحو أحادية القطب كبيرا أيضا. والموقع الحساس الذي يكون بحوزة اللاعب الضعيف يتحول بالضرورة من مصدر محتمل للنفوذ إلى عبء سياسي حافظ. وهذا ما يجعلنا نعتبر منطقتنا بدون مناعة كافية، تخترقها التأثيرات الدولية بسبب حساسيتها كما بسبب التشرذم الذي يمنعنا من تحويل هذه الحساسية إلى مصدر قوة بدلا من أن تكون مغناطيسيا يستثير رغبة الأقوياء بمد نفوذهم إليها....وتشرذم الوطن العربي اليوم يجعل بعضا من دوله تخترقها تأثيرات دولية وإقليمية وداخلية مجتمعة وخطيرة، وهي تأثيرات متنامية ويصعب التكهن بها، وكلها سلبية وعاتية تأتي على الأخضر واليابس بل وعلى القواعد والأسس التي بني عليها النظام الدولي من احترام لحقوق الإنسان والحريات العامة
النظام العربي بقي لعقود نظاما مبتورا ومريضا مرضا مزمنا بسبب الآليات المتحكمة في تركيبته؛ فلا خلق جامعة الدول العربية، ولا التوقيع على العديد من الاتفاقيات والشراكات الثنائية ومتعددة الأطراف، ولا خلق بعض التجمعات دون الإقليمية، مكنت منظومة العمل العربي المشترك من الالتحاق بركب النظام الأوربي أو النظام الأمريكي أو النظام الآسيوي، بمعنى أن النظام العربي هو خارج عن النظام العالمي وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل: هل الأمة العربية لها من الديناميات ما يدفعها إلى تشكيل وحدة إقليمية متماسكة على شاكلة الاتحاد الأوروبي مثلا؟ وإذا كانت كذلك، فلماذا خفقت في تحقيق الوحدة؟ بعض المحللين يرجعون مصدر العلة إلى بعض العوامل كالصراع على الزعامة والنفوذ بين القيادات العربية والنخب، والاختلاف في حجم المعطيات الاقتصادية بين الدول العربية، والتباين الكبير في نظم الحكم والإيديولوجيات وتنامي النزاعات الوطنية المرتبطة بالدول القطرية، وأخيرا استمرار التدخل الغربي-الإسرائيلي لاجتثاث بذرة الوحدة العربية الكامنة في تربة الأمة وإخماد شعلتها المتقدة على حياء.
إلا أن هذا النوع من التفكير يبدو لنا خاطئا ولا يسمح لأي حصيف قارئ أن يحقق فيه أي تقدم معرفي، ومن هنا العديد من النظريات الخاطئة.
فالتاريخ يُخْتَزَلُ في هاته العوامل وكأنه نتيجة معطيات أنشئت مسبقا، ويكفي الباحث تشخيصها لشرحها؛ والصائب أن التاريخ لا يخضع لقواعد العوامل، وإنما هو يندرج في إطار من الديناميكية المستمرة تتعدى العوامل ومكونات المجتمعات المختلفة، وتخلق سيرورة مستدامة تغير تلكم العوامل والمكونات بحسب الأزمنة والأمكنة والظروف.
فإذا أردنا مثلا تتبع نشأة وتكوين مثال الاتحاد الأوروبي سالف الذكر بحثا عن الديناميات المتحكمة بالأمور المتحولة، لوجدنا الدينامية السياسية هي من بين المحركات الأساسية لعجلة الوحدة الأوروبية؛ فالمجتمع الأوروبي يتحدث لغات عديدة حتى لأنك تجد عدد المترجمين في مؤسسات الاتحاد يقرب ثلث الموظفين فيها؛ كما أن قوة الثنائية الألمانية -الفرنسية في بناء صرح الاتحاد الأوروبي هو أفضل دليل على صلابة القوة السياسية في بناء الاتحاد؛ فبناء الوحدة وتجنب العودة إلى العداء والشقاق لا يتم فقط ببناء الجوار الحسن وإنما بفعل إرادة سياسية وثقافية قوية مشيدة لمؤسسات تتجاوز حدود الانقسام. أما الوطن العربي فيتحدث لغة واحدة وهي لغة القرآن، اللغة العربية ومع ذلك فهو متشرذم ويحتاج اليوم إلى ضخ الثقافات الموحدة في عروقه وإلى رغبة سياسية واقعية ووحدوية.