في العالم اليوم دولتان كهنوتيتان، يتربع على عرش السلطة العليا فيهما رجلا دين، هما الفاتيكان المسيحية الكاثوليكية وإيران الإسلامية الشيعية. وعندما حكم جماعة الإخوان مصر عملوا على تحويل مصر، ولكن تدريجياً، إلى دولة كهنوتية سنية إسلامية على غرار إيران، مستغلين العواطف الدينية الجياشة لدى المصريين، غير أن فشلهم، وبالذات اقتصادياً وأمنياً، وتدني خبرة أساطينهم السياسية والإدارية، جعل مشروعهم الكهنوتي يبوء بالفشل الذريع، فخرجت مصر عن بكرة أبيها تتظاهر مطالبة بتنحيتهم، فتدخل الجيش وأسقطهم , وأعاد مصر إلى المدنية، والحكم المدني من جديد.
أما في تونس فحاول حزب النهضة المتأخون المحاولة نفسها على استحياء، وربما بمكر ودهاء أكثر من المصريين، غير أن المحاولة هي الأخرى فشلت، وعاد المدنيون (البورقيبيون) إلى السلطة، وتمت تنحية الإخوان، ليبقى حزب النهضة حزباً ثانوياً، سواء في الانتخابات البرلمانية أو الرئاسية.
وكل من أراد أن يعرف مغبّة حكم الكهنوتيين، واستيراد التاريخ وتجاربه ومآسيه، ليحكم الحاضر والمستقبل فعليا، فأمامه التجربة الإيرانية، فهي مثال حي ومعاصر للكيفية التي بها يحكم الكهنوتيون الدول المعاصرة. إيران أدخلها الكهنوتيون في حرب مع العراق بعد ان أعلنوا أنهم سيُصدّرون تجربتهم الثورية الكهنوتية إلى من حولهم، ثم أوقفوها بعد حرب ضروس بينهم وبين العراق، وجنحوا للسلم مضطرين . وبعدها عملوا على تهميش الإنسان الإيراني وتنميته وتطويره والاهتمام بقضاياه، واتجهوا إلى تنمية القوة وصناعة السلاح ونشر الإيديولوجيا بدلاً من تنمية بلادهم اقتصادياً واجتماعياً، وتبذير ثروات إيران الوطنية ذات الشمال وذات اليمين لنصرة المذهب؛ فالكهنوتي في كل المذاهب والأديان هو أولاً حامي المذهب، وممثل الله حصراً على الأرض لأنه بهذا الادعاء يستطيع أن يَسوق البشر كما تُساق النعاج إلى التضحية ليس بمصالحهم فحسب، وإنما بأرواحهم، في سبيل إبقائه سيفا مسلطا على الرقاب، وكل من اختلف معه أو خاصمه أو عاداه، فهو لا يختلف مع إنسان مثله، وإنما مع من اختاره الله ليمثله على الأرض. لذلك فالولي الفقيه عندما يُبعثر ثروات الإيرانيين في العراق وسوريا ولبنان واليمن، في حين أن الإنسان الإيراني يتضور جوعاً فهو يخدم مذهبه، وبالتالي يخدم مكانته وقوته هو ومن كان من ذات الطبقة دينيا.
إيران دخلت في صراعات مع الجميع، مع الدول الأقليمية، ومع الغرب، ومولت أحزاباً ومنظمات إرهابيه هنا وهناك على حساب الإنسان الإيراني، الذي يتضور جوعاً، وتخلفا، وعندما يُعارِض فليس أمامه إلا هرّاوات الحرس الثوري المؤدلج حتى النخاع، والمستعد لإبادة ملايين الإيرانيين إذا ما احتجوا على سياسة الملالي، وما جرى في الثورة الخضراء عام 2009 حينما زور الولي الفقيه الانتخابات، وكذلك قتلى المظاهرات، والآلاف التي امتلأت بهم السجون، يؤكد ما أقول.
أوضاع إيران الداخلية اليوم تتدهور، والاقتصاد يختنق، وسعر صرف العملة الإيرانية في الحضيض، والأسعار تتجه إلى الأعلى، والتضخم يعصف بالإنسان الإيراني فيحيل معيشته إلى معاناة تتزايد مواجعها عليه يوماً بعد الآخر، وحكام إيران لا شأن لهم به ولا بمعيشته ولا بأوضاعه الاجتماعية المتدهورة على كل الصعُد، قدر اهتمامهم بنصرة المذهب وتمكينه والصرف على تغلغله وانتشاره بين الشعوب خارج إيران بجنون.
راقب ما يمارسه الملالي الكهنوتيون في إيران، داخلياً وخارجياً، لتعرف السبب الذي جعل الغرب المتحضر والمتفوق ينتهي إلى أن يضع الكهنوتية المذهبية وكهانها والتعصب لها والموت من أجلها خلف ظهره، فانطلقت الشعوب الأوروبية من عقالها الكهنوتي تفكر وتكتب وتبدع وتهيئ للإنسان في حياته ما لم يتهيأ له على مر التاريخ قاطبة؛ إنها حضارة اليوم التي تجول مركباتها في السماء، فتقرب البعيد، وسخرت الحديد وكل جديد لأسعاده و رفاهيته في حياته.
ومن عظمة ديننا الحنيف، بل ومن دلالات إعجازه، أنْ جعل الكهنوتية قبل خمسة عشر قرناً والكهان وأتباعهم، خارج إطار دين الإسلام وضرباً من ضروب الحرام بنص قرآني واضح لا يقبل التأويل، قبل أن يكتشف الأوروبيون ما أنزله جل وعلا على نبيه.
يقول جل شأنه في كتابه المطهر عن كهنوتية اليهود والنصارى: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}. جاء في الطبري في تفسير هذه الآية: (حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي عن سلمة عن الضحاك عن الصحابة: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ} قال: قراءهم وعلماءهم) وهذا يُنهي أي نقاش أو جدل على أن (الكهنوتيه) قد تنتهي بأصحابها إلى اتخاذهم أرباباً من دون الله.
فهل ثمة من المتأسلمين الحركيين، سنة كانوا أم شيعة، من يستطيع بعد هذا النص القرآني مُحكم الدلالة والوضوح أن (يُؤسلِم) الكهنوتية، ويدعو إليها؟.
إلى اللقاء،،،