بعد سنوات من العطاء المثمر والحكمة في معالجة الأحداث الجسام التي مرت بالمملكة في عهده انتقل الملك العظيم عبدالله بن عبدالعزيز إلى جوار ربه، بعد أن أدى الأمانة، وأدار شؤون الدولة، وواجه التحديات بما يجب أن تكون المواجهة والمعالجة وبحصافة واتزان. فحظي كقائد وكزعيم بكل هذه الشعبية الاستثنائية، وهذا الحب، وهذه المكانة التي نالها ليس بين أبناء شعبه فحسب، وإنما عربياً وإسلامياً، ونال احترام كل من تعامل معه من زعماء العالم الذين عاصروه خلال سنوات حكمه.
أغلب السعوديين يختلفون فيما بينهم على قضايا كثيرة ومتعددة، لكنهم يتفقون على حبه وتقديره واحترامه والرؤية إليه كقائد عظيم، وأب حنون، يعرف كيف يقود سفينة الدولة مهما كانت الأمواج عاتية والتحديات التي تواجهها معقدة، إلى بر الأمان بكل اقتدار وتمكن.
في عهده كانت المشاريع التطويرية الإدارية الضخمة سمة طاغية على اهتماماته وقراراته، فكان مشروع الملك عبدالله لتطوير القضاء احدى العلامات المهمة والمضيئة التي انعكست على الواقع داخل المملكة، طوال سنوات حكمه، فقد آمن رحمه الله، بأن العدل هو أساس الملك، ومارس هذا الإيمان ممارسة واقعية، من خلال (مشروع الملك عبدالله لتطوير القضاء)، الذي كان في تفاصيله تجسيداً حقيقياً لرؤيته ولكيفية إدارة الدولة ومواكبة التغيرات. فكان حريصاً على أن ينال كل ذي حق حقه، لا تأخذه في ذلك لومة لائم؛ ولا قرابة قريب، ولا مكانة حسيب، فكان فعلاً ملكاً لا يرضى بالظلم، ويأبى الضيم، ويقف مع أصحاب الحقوق، وينتصر لهم. وهناك آلاف القصص والمواقف التي يرويها من حوله، ومن عملوا معه، تؤكد بكل وضوح هذا المنحى في توجهاته وقراراته في ما واجهه من قضايا محلية. وفي عهده كان ابتعاث طلبة العلم الضخم إلى الخارج، الذي بلغت أرقام المستفيدين منه أكثر من 150 ألف طالب وطالبة، إلى جميع أنحاء العالم، وفي تخصصات متعددة، حتى يندر أن يكون هناك أسرة في بلادنا لم يكن لها ابنٌ أو أخ أو قريب لم يستفد من هذا المشروع التعليمي الكبير, وليس لدي أدنى شك أن مشروعاً ضخماً كهذا المشروع ستجني الأجيال القادمة ثمراته التنموية بالشكل والمضمون الذي يجعل هذه البلاد تواكب التحديات التنموية، وتقف أمامها، وأمام متغيراتها، بعقول متفتحة، وعلم ومعرفة لترسخ الاستقرار والنماء الذي يضعه كل ملوك آل سعود كأولوية أولى في سلم أولوياتهم لا يفرطون فيها مهما كانت الأحداث عصيبة والظروف حالكة، ابتداء من عبدالعزيز ومروراً بالملك سعود، فالملك فيصل، فالملك خالد، فالملك فهد، وانتهاء بالملك عبدالله؛ ولأن الاستقرار ثابت من ثوابتهم، فكان هذا الأمن، وكان هذا الاستقرار والاستمرار، الذي جعل هذه البلاد تنأى دائماً بنفسها عن الفتن والقلاقل والمحن، في زمن عصفت باستقرار من حولها عواصف هوجاء لم تبق ولم تذر.
طبعاً غير إنجازاته التنموية الأخرى، فقد أسست في عهده 28 جامعة انتشرت في كل مناطق المملكة، و6 مدن طبية، و11 مستشفى تخصصياً، و32 مستشفى عاماً، وشبكة طرق برية وحديدية، و11 مدينة رياضية.
ولعل أهم تحد واجهته بلادنا في عهد الملك عبدالله أحداث ما سُمّي بالربيع العربي. هذه الأحداث واجهها الملك عبدالله بقرارات تاريخية جريئة وفي الوقت نفسه حصيفة، كانت نتيجتها أن نأى ببلاده واستقرارها عما دار حولها، كان أعداؤنا ينتظرون أن تصل إلينا هذه العواصف فتنال من استقرارنا وأمننا مثلما نالت من غيرها، غير أن الواقع كان على العكس من ذلك تماماً؛ فقد خرجت المملكة من هذه المتغيرات الإقليمية دولة قوية مستقرة، بل وأصبحت الأقوى بين كل دول المنطقة؛ ولا شك أن لإدارته الحصيفة في مواجهته لهذه الأحداث، ناهيك عن شعبيته الكاسحة ولاستثنائية بين أبناء شعبه، دوراً رئيسياً ومحورياً في تجاوزها لهذه الأوقات التي عصفت بالآخرين.
رحم الله الملك عبدالله، وأجزل له الأجر والثواب من عنده، فقد أدى الأمانة، وأخلص في تنفيذ مهامه الجسيمة، فدخل التاريخ من أوسع أبوابه؛ ووفق الله سلفه، الذي كان عضيده في حياته، وخليفته من بعده، خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، لتنفيذ المهام الجسام الذي تحملها بعده، وجعله خير خلف لخير سلف.
إلى اللقاء.