كان الملك عبدالله -رحمه الله- الأكثر إصرارا على مواجهة آثار المراحل السابقة والخروج منها بتحد وشجاعة ومغامرة؛ وبخاصة بعد الحدث الكوني في 11 سبتمبر، وبعد أن بدأت الجماعة التكفيرية الضالة في استهداف أمن البلاد ومنشآتها بالتفجير عام 1423هـ.
حمل الملك عبدالله بيده السلاح لمقاومة التطرف، وأوقد باليد الأخرى شعلة إعادة البناء والانفتاح والتأسيس لمرحلة جديدة من مشروع النهضة.
ولا بد أن نعترف بأن لدى الملك عبدالله مشروعا نهضويا طموحا يستكمل ما بدأه الأسلاف من قادة البلاد رحمهم الله؛ فلو تتبعنا بداياته وتلمسناها لوجدناها بدأت فيما وقع تحت إدارته؛ كالحرس الوطني الذي نقله إلى مؤسسة حضارية كبرى، لها رسالتها ومرافقها السكنية والطبية والتعليمية ومهام تنويرية وتثقيفية من خلال فكرة «المهرجان الوطني للتراث والثقافة»
ومشروع الملك عبدالله للنهضة الذي بدأه مبكرا ثم أسرع بتنفيذه وعلى عجل وبهمة عالية تسابق الزمن يتلاقى من حيث الأسلوب والطريقة مع تجارب النهضات العالمية الكبرى؛ كتجربة النهضة المصرية المبكرة على يد محمد علي باشا 1835م، وفي اليابان مع حضارة «المايجي إيشين» على يد الإمبراطور موتسو هيتو عام 1867م، ومع التجربة الكورية على يد الجنرال بارك شونج 1961م؛ فقد أفاد الملك عبدالله من تلك التجارب وغيرها، وأخذ بأوجه النجاح والتميز فيها؛ ولعل من أبرز مقومات النهضة والتمدين في التجارب السابقة الاعتماد على عنصرين: الابتعاث إلى مراكز العلم في العالم المتقدم، والانفتاح على الثقافات الأخرى.
فأسرع بتكثيف البعثات إلى مراكز العلم في العالم إلى أن قارب المبتعثون السعوديون مائتي ألف، وفي الوقت نفسه سعى إلى توطين المعرفة من خلال جامعة «كاوست» التي تعد مركزا علميا عالميا للتكنولوجيا تضم أفضل النخب العالمية في مجالات التقنية الحديثة والبحث العلمي فيها، وأضاف سريعا وخلال أقل من عشر سنوات أربعين جامعة في مختلف المناطق.
ومن خلال رؤية عبدالله لمشروع النهضة فتح المجال للحوار في الداخل مع التيارات الفكرية؛ رغبة في كشف المعيقات والمحبطات ومثبطات النهوض التي تتشكل دائما باسم التقاليد أو المحافظة، وكان الحوار في هذا الشأن مفيدا وناضجا وأثمر عن انحسار المد المتزمت وانزوائه وإيمانه بفشله في مواجهة مد التحديث الزاحف إلى كل المجالات في الحياة، وفي الحوار مع الحضارات والثقافات العالمية بدأ مشروعه في هذا المجال من خلال مركز الملك عبدالله للحوار مع الحضارات الذي اتخذ من فيينا مقرا له، وأدار المركز جولات مهمة في هذا النطاق الذي يهدف إلى كسر الجدار الصلب من عدم فهم الأبعاد الإنسانية والأخلاقية في الإسلام والثقافة العربية.
ولا شك أن الحدث الكوني 11 سبتمبر 2001م كان له أثر بالغ في إعادة صياغة العالم، ولا شك أيضا أن التقدم العلمي الهائل في ميدان الاتصال والتواصل كان له تأثير واضح في كسر الحواجز وفرض إرادة الأمر الواقع والإيمان بضرورات الانفتاح؛ وعلى الرغم من بعض الجوانب السلبية لتقنية الاتصال الحديثة كاستخدامها من قبل المتطرفين للترويج لأفكارهم؛ إلا أن أدوات التواصل كانت سبيلا جيدا أيضا للحرب على الإرهاب والفكر التكفيري.
وقد استلم الملك سلمان -أيده الله ووفقه- سدة قيادة البلاد؛ قد يتساءل فريق من الناس: هل سيسير على النهج نفسه من الانفتاح والشفافية التي ترسخت بصورة كبيرة وواضحة في عهد الملك عبدالله حتى أصبحت اتجاها؛ والجواب: نعم؛ لأن الدولة تنطلق من النهج الإسلامي وقيمه النبيلة مع الالتزام بخط النهضة المتصاعد في كل مرحلة وبسياسة الخطوة خطوة؛ منعا لحدوث ردات فعل اجتماعية لا تحتمل أو تستوعب الجديد، وهذا يعني أن لكل قائد من قادتنا أسلوبه في إدارة الدولة وتحقيق الأهداف، مع احتمال إحداث بعض التعديلات بما تفرضه الضرورات والمستجدات؛ انطلاقا من منهج الدولة ورؤيتها الثابتة، لا من سياسة فردية مطلقة.