رحم الله وغفر لفقيد الوطن والأمة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، ولا نملك إلا الدعاء لقائد كبير كان بمثابة الأب الحاني المحب لشعبه الحريص على الإنجاز والبناء والقفز بالوطن فوق التحديات والصعوبات وتحقيق أعلى معدل للتنمية في أقصر وقت ممكن، وهو ما تحقق بالفعل؛ ففي أقل من عشر سنوات فقط تعالى بنيان نهضة جديدة في مجالات حضارية مختلفة لم يكن تحقيقها سهلاً ولا ميسوراً في وقت وجيز وفي ظل تحديات داخلية وخارجية جمة واجهها الملك عبد الله بكل الحزم والقوة والجسارة والمبادرة بالقرار الجريء غير المتردد حتى قطعت ألسنة التطرف وأصيب المشككون والمثبطون بالخرص، وسار الوطن في طريق التحديث والبناء بإنجازات مشهودة في كثير من المجالات كالتعليم والنقل والشورى والمرأة والنقل وغيرها مما نراه اليوم شواهد حية نابضة بالإصرار على الانطلاق إلى المستقبل الحضاري المنشود.
لم يكن الملك عبد الله متردداً يوماً في مواجهة التطرف الذي يريد أن يشيع الفوضى في البلاد وأن يجرها إلى الخلف ويوقف عجلة التنمية والتطور والبناء والانفتاح؛ فواجه بكل الصرامة والقوة وثبات العزيمة، وقال سنواجه التطرف عشر سنين أو عشرين أو ثلاثين أو أربعين سنة، وهو ما حدث تماماً؛ فقد دكت القوات الأمنية السعودية الباسلة حصون ومعاقل المتطرفين وأخرجتهم من جحورهم ومخابئهم وكشف ما كانوا يخزنونه من أسلحة وذخائر لتدمير البلاد والعباد؛ حتى فروا إلى المنافي في ولجؤوا إلى مواطن الصراع والفتن في البلدان القريبة المحيطة بنا وغيرها.
واتجه أبو متعب - رحمه الله - إلى المستقبل؛ فأنشأ جامعة الملك عبد الله العالمية للعلوم والتكنلوجيا «كاوست» التي تخلق بيئة علمية عالمية وتضم بين كلياتها ومعاهد العلم فيها أرقى النخب العالمية من أساتذة وخبراء ودارسين، وتتيح الفرصة للموهوبين والمتفوقين من أبناء الوطن ليحتكوا بأفضل الخبرات العالمية ويكتسبوا منها المفيد ثمار جهودهم وما توصلوا إليه من طرائق البحث وأدواته ونتائجه.
واتجه الملك عبد الله إلى المستقبل بإيفاد ما يقرب الآن من مائتي ألف من أبنائنا إلى أفضل الجامعات في العالم كله؛ لينهلوا العلم والمعرفة ويكتسبوا ثقافة جديدة ويعودوا إلى الوطن برؤى قادرة على الإنجاز والعطاء في كل المرافق.
واتجه إلى المستقبل فطور من أدوات مجلس الشورى وأضاف له خبرات وقدرات جديدة، وأدخل إليه ثلاثين من أفضل الكفاءات النسائية؛ ليقدمن رؤاهن وخبراتهن في اتخاذ القرارات التي تقدم الوطن إلى الأمام.
لقد كان الأخذ بيد المرأة ووضعها في المكان المناسب هما من همومه وجزءا من مشروعه الحضاري؛ فأوصلها إلى مراتب متقدمة في القيادة الإدارية حتى أصبحت بمرتبة وزير ومديرة جامعة.
لقد غير الفقيد الكبير خلال أقل من عشر سنوات وجه الحياة في بلادنا، وواجه بكل الشجاعة كل التحديات؛ فلم يتوان أو يتراجع أو ينهزم، لقد كان قريباً من شعبه، بسيطاً في تعاملة، تلقائياً عفوياً صادقاً، ما في قلبه ينثال على لسانه بدون حذلقة ولا تمحك ولا مبالغة أو تمثيل.
لم يكن أبو متعب - رحمه الله - ملكاً أو حاكماً فحسب؛ بل كان صاحب مشروع حضاري طموح وكبير وواسع، كان قائد نهضة، ويحمل بين جوانحه رؤية واضحة للمستقبل، لم يكن يجهل ما يعمل أو إلى أين يتجه ببلاده، كان يرى في الأفق البعيد كيف يمكن أن يكون وطنه بعد عقد أو عقدين من الزمن إن ثابر الجميع وهموا بكل الجد والإخلاص على تحقيق ما يأمل فيه ويخطط له.
ونحمد الله تعالى؛ فالأحداث والمصائب والملمات بمقدار ما تؤلم وتوجع تكشف أيضا عن جوانب أخرى تثير الغبطة والطمأنينة في قلوب المحبين والنكد واليأس في قلوب الشانئين والشامتين والكارهين؛ فقد تجلت المشاعر الإنسانية المحبة بكل العفوية والتلقائية من لحظة إعلان وفاة القائد الكبير - رحمه الله - واشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي بفيض هائل من الكلمات التي تنم عن عمق المحبة لأبي متعب وصادق الولاء للأسرة الحاكمة الكريمة، وهي في حقيقة الأمر مبايعة عفوية تلقائية من عامة الناس اندفعت بدون طلب ولا تكليف ولا رجاء من ملايين المواطنين وما زالت تعمر تويتر وغيره من وسائط الاتصال؛ فكانت رداً قوياً وصادقاً على طغمة من الأوغاد الحاقدين الموتورين من متطرفين وتكفيريين كالدواعش ومن لف لفهم، أو من أولئك المأزومين بأنفسهم ممن اتخذوا من لندن وغيرها ملجأ إليها ينوحون ويتصايحون ويتبادلون رذل القول وسيء النوايا ويفرحون بالمصيبة ويتمنون لبلادنا أسوأ المصاير ويدعون إلى الفتنة واشتعال الفوضى؛ ولكن الله سبحانه خيب آمالهم وآمال من يسعى مساعيهم ممن في قلبه مرض ورد كيدهم في نحورهم وأظهر كم هو بنيان هذا الوطن قوي متماسك، وكم هو مؤسس على قيم أخلاقية سامية ونبيلة وأصيلة تضرب بجذورها في أعماق التاريخ وتستمد طهارتها وسموها من تعاليم القرآن الكريم ومن السنة النبوية المطهرة، ومن سير الصالحين الأبرار في هذه الأمة.
وها هي السلطة تنتقل بكل السلاسة والهدوء والطمأنينة والثقة إلى ولي العهد الأمير سلمان وإلى ولي عهده الأمير مقرن؛ ليصبح سلمان خادم الحرمين الشريفين وملكاً للبلاد وليصبح أيضا مقرن ولياً للعهد ونائباً أول لرئيس مجلس الوزراء، وها هي ترتيبات انتقال السلطة تتخذ بكل الثقة والوضوح والرؤية التامة للمستقبل من أبناء عبد العزيز إلى جيل الأحفاد - بعد عمر طويل إن شاء الله - متمثلة في اختيار الأمير محمد بن نايف ولياً لولي العهد؛ ليحسم الأمر في هذا الجانب الذي تقول فيه المتقولون وزادوا وتمنوا؛ ولكن الله خيب ظنونهم، وصدرت القرارات الملكية ظهيرة هذا اليوم الجمعة (أمس) وقت كتابة هذا المقال لتضع الوطن بهدوء وطمأنينة في المستقبل، ولتقطع ألسنة المتقولين والمتخرصين والحاقدين.
اللهم ارحم فقيدنا الغالي عبد الله بن عبد العزيز وأسبغ عليه شآبيب رحمتك ورضوانك، ووفق خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز إلى ما فيه الخير والرخاء والتقدم والنهضة لهذه البلاد والعزة والمنعة للأمة العربية والإسلامية، وأعنه بعضده ولي العهد النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء الأمير مقرن وولي العهد والنائب الثاني وزير الداخلية الأمير محمد بن نايف.
وتستمر مسيرة هذا الوطن بكل الأمن والأمان والثقة إلى المستقبل محفوفاً برعاية الله وحفظه وتوفيقه.