بعدما أعلنت ميزانية الدولة للعام المالي القادم، كثر الحديث حول العجز المتوقع في الإيرادات وتعددت المقالات المطالبة بترشيد الإنفاق ومعالجة تعثر المشروعات الحكومية، وعاد الحديث حول تنويع مصادر الدخل وعدم الاعتماد على البترول كمصدر مهيمن إلى واجهة الاهتمام، هذا الحراك الفكري في الاقتصاد الوطني بات رافدًا للمطالبة بتحسين أداء الأجهزة الحكومية وينسجم مع الرغبة الملكية السامية في دعم العمل الحكومي بما يسهم في تحقيق خدمات أفضل للمواطن السعودي، والأجهزة الحكومية بصورة عامة استفادت من الوفرة في المخصصات المالية خلال السنوات الماضية وطورت وسائلها ونظمها بحيث باتت أقدر على تحسين خدماتها، إلا أن كمية المشروعات وإلحاح حاجة المواطنين لتحسين الخدمات أصبحت تحديًا حقيقًا لكثير من الأجهزة الحكومية وهو ما جعل بعض الشكوى من التقصير تظهر بصورة صادمة لجهود الدولة وتستثير السؤال عن جدية تنفيذ ما يخطط له أو فاعلية ذلك. لذا أصبح هناك حاجة ماسة لقياس تنفيذ الخطط والمشروعات الحكومية بصورة عملية فصدر قرار مجلس الوزراء رقم (187) وتاريخ 4-7-1429هـ بإنشاء مركز قياس الأداء للأجهزة الحكومية. تحت مظلة معهد الإدارة العامة كمرحلة أولى، ثم يستقل كجهاز ذاتي.
قياس الأداء هو عملية بيولوجية تقوم بها معظم الكائنات الحية بصورة أنية ومتكررة، فالخلية الحية وهي أصغر نظام حيوي تتغذى من محيطها وتقيس في كل لحظة جاهزيتها للانقسام وعندما تتحقق من ذلك تنقسم، والرضيع يحبو، ثم يقيس جاهزيته للوقوف وقد يسقط مرات عديدة وفي كل مرة يتعلم من تلك السقطات حتى يقف، ثم يمشي وهكذا نحن دائمًا نتعلم مهاراتنا من قياس وتحسين تلك المهارات بصورة مستمرة، هذه الحقيقة على بساطتها ووضوحها وحضورها في حياتنا بصورة ملازمة لكل نشاط نقوم به كأفراد لم تكن دافعا لوضع آلية لقياس الأداء الجمعي، حيث ذلك يستلزم وضع آلية للقياس وتحديد معايير وتقنين زمن وتقرير لمن وكيف ووضع آلية للاستفادة من القياس. هذا الأمر يحتاج لجهود كبيرة وتهيئة وتدريب ووضع أدوات ونظم جمع البيانات وتحليلها، لذا عندما باشر مركز قياس الأداء للأجهزة الحكومية أعماله، كان من أهم أهدافه هو تكوين ثقافة قياس الأداء الكلي واعتماد آلية القياس ووضع معايير القياس، وقد حقق المركز خطوات مهمة في هذا السبيل وبات الآن جاهزًا للانطلاق للمرحلة الثانية التي بها سيستقل كجهاز حكومي فاعل في تحسين الخدمة العامة.
بعض الأجهزة الحكومية بادرت بوضع تنظيم لقياس أدائها الكلي أو قياس أداء المشروعات التي تشرف على تنفيذها فوزارة الخدمة المدنية بصدد تطبيق نظام «بطاقات الأداء المتوازن» ووزارة الشؤون البلدية والقروية طوّرت نظام «مكتب إدارة المشروعات» الذي من خلاله ستستطيع قياس أداء آلاف المشروعات التي تنفذها الأمانات والبلديات، ووزارة الاقتصاد والتخطيط أصبحت جاهزة لإطلاق نظام جمع بيانات تنفيذ المشروعات العامة، وهناك العديد من الأجهزة الحكومية التي لديها مبادرات في هذا الجانب بعضها أصبح جاهزا للتطبيق والبعض في مرحلة التصميم والتقييم.
قياس أداء الأجهزة الحكومية واعتماد آليات ونظم مراقبة أداء المشروعات كفيل بتوفير معلومات شبه آنية لتنفيذ المشروعات ومعرفة عوائق التنفيذ في وقت مبكر مما يسهم في تذليل تلك العقبات قبل أن تستفحل، وحيث يوفر قياس الأداء شفافية لواقع الأجهزة الحكومية فهو أكبر مساهم في درء الفساد وتيسير كشفه سواء كان فسادًا إداريًا أو ماليًا، لذا يجدر بهيئة مكافحة الفساد أن تجعل قياس أداء الأجهزة الحكومية أهم متطلبات مكافحة الفساد وأن تصدر تقريرًا دوريًا ينشر حول التزام الأجهزة الحكومية بذلك.
زبدة هذا المقال، هي القول إن ترشيد الإنفاق وتحسين الخدمات الحكومية ومعالجة تعثر المشروعات الحكومية لا تتحقق من دون تطبيق نظم قياس أداء الأجهزة الحكومية ووضع نظم رقابة ومتابعة المشروعات واعتماد تقنية المعلومات في جمع البيانات ونشرها والعمل على تطبيق معايير الحوكمة في إجراءات الأجهزة الحكومية، وهذا العمل لن يحدث بلا جهد ومتابعة وإصرار من القيادة.