أكتب هذا المقال وأنا أتابع الجهود الصادقة من عدة حكومات عربية لحماية اللغة العربية من الاندثار والاختفاء من عقول وألسنة الأجيال القادمة. الجهود مشكورة لكنها لن تثمر شيئاً في أجواء الإرهاب المذهبي والطائفي والطبقي والعداوات بين المكونات الداخلية والخارجية.
المحافظة على لغة خافتة حضارياً وإعادتها إلى الحركة والنشاط يجب أن يكون في المختبرات ومعاهد العلوم والأبحاث التطبيقية والكليات العسكرية، وأولاً وقبل كل شيء في التعليم المدرسي.
ما عدا ذلك سوف يبقى مجرد جهود نبيلة قد تطيل قليلاً في عمر اللغة، لكنها لن تفي بغرض الإنقاذ من الاندثار.
المصاب بالسكتة لا يستفيق بالخطابة والقصائد وإنما بالصدمة الكهربائية الحضارية.
المؤتمرات والمهرجانات وجوائز المليون ومسابقات الإلقاء لا دور لها في بقاء اللغة وازدهارها.
عاملان فقط يحافظان على اللغات القومية ويوسعان في انتشارها، الأبحاث والإنجازات العلمية بمعناها التجديدي الحقيقي، وقوة الردع العسكري الكافية للحصول على الهيبة والاحترام.
الرصيد التراكمي القديم للغات قد يرشحها للقيام بدور المرجعية الدينية في فهم النصوص ودور المرجعية التراثية للتنقيب في الآثار والتاريخ.
كم عربياً يتكلم الآن اللغة الحميرية أو الثمودية أو النبطية، وما بقى من الهيروغليفية والسانسكريتية والفارسية الإخمنية القديمة؟.
اللغة العبرية بقيت في تراتيل وترانيم النصوص اليهودية، لكنها دخلت في سبات طويل بعيد عن الاستعمال المعيشي امتد لمئات القرون.
العلماء اليهود كانوا يشاركون بأبحاثهم العلمية بلغات وإمكانات الدول التي يعيشون فيها ويحملون هوياتها الوطنية.
مشروع ثيودور هيرتزل في البحث عن وطن لليهود، ثم التحصين المادي بالعلم والقوة العسكرية، ذلك هو ما أعاد اللغة العبرية إلى الحياة، رغم أنها لم تعد العبرية الأصلية الأولى وتطعمت بخليط مفردات ومصطلحات من لغات أجنبية كثيرة، منها اللغة العربية.
قواعد اللغة العبرية الحديثة مشتقة إلى حد كبير من قواعد اللغة العربية، لأن العبرية فقدت أصولها البنيوية والتركيبية والاشتقاقية أثناء الشتات اليهودي والانقطاع الطويل بين الهوية والإنجاز الحضاري والقوة العسكرية.
قبل أن تصاب أي لغة بالسكتة النهائية، أي السكتة الحضارية التي لا ترجى حياة بعدها تكون قد دخلت في حالة سبات انقطاعي؛ بســبب عجز من يتكلمونها عن الإنجـــاز العلمي والمنطقي والفلســـفي والتأمل العقلاني في الكون.
في تلك المرحلة يكون أهل تلك اللغة تحسبهم أيقاظاً وهم رقود، يتكلمون ولكن بما يشبه الهذيان.
عندما يموت العلم بمفهومه العقلاني في إحدى البيئات اللغوية يتسارع التآكل والهزال الاجتماعي على كل المستويات.
النتيجة السريعة هي تسلط عقلية الكثرة الجاهلة على القلة المتبقية من القدرات العلمية والفكرية، واضطهادها لدرجة الإخراس وكتم الأنفاس.
النتيجة التالية هي التباهي بالقديم كمحاولة بائسة وعقيمة لمقاومة لغات وحضارات أقوام غزاة آخرين.
الفارق بين القوتين، المحلية والغازية، يؤدي كقدر محتوم إلى الانتكاس نحو تدمير الذات.
المهزوم علمياً وعسكرياً يشعر بالحسد والإحباط الحضاري والعجز، فيسقط حسده وعجزه وإحباطه على الداخل الخاص.
الداخل الخاص هنا هو تلك القلة المتبقية التي ما زالت تمتلك بعض القدرة على التفكير العقلاني وتشخيص الاعتلال والضعف، وتحاول الهمس بما تبقى لها من نفس بأن الاستمرار في هذا الطريق خطأ وسوف ينتهي بموت الجميع.
الإرهاب المدمر والعودة إلى همجية ما قبل الأديان والقوانين تصبح حينئذ نتائج حتمية.
في هذه الظروف تكون اللغة مجرد ضحية أخرى تضاف إلى قائمة الخسائر والضحايا والخراب.
المسألة اليهودية (The Jewish Question) التي بعثها هيرتزل الصهيوني قبل قرن ونصف قامت كحركة إحيائية مضادة، بهدف إعادة الهوية الجامعة لليهود بلغة واحدة وفي وطن واحد.
لم يكن المشروع الاستيطاني اليهودي في بلد عربي لينجح دون العمل الجبار لبناء ما يسمى جيش الدفاع الإسرائيلي والبنية العلمية المتفوقة.
عادت العبرية إلى الحياة تحت حماية التطور العلمي والقوة العسكرية في أرض منهوبة كان وما زال أهلها يمضغون التاريخ القديم ويستنكرون التجديد ويبعدون المجددين من قائمة الأولويات.
اللغة العربية الكامنة في قلب مصاب بالسكتة الحضارية تحتاج إلى صدمة كهربائية تجديدية.