عندما ارتكب الكيان الصهيوني عدوانه على غَزَّة وأهلها، عام 2012م، اغتيالات وتدميراً، لم تستنكر أمريكا العدوان كما يقتضي العدل والإنصاف من دولة ظن المتجاهلون للحقائق أنها راعية للسلام؛ بل إنها سارعت إلى تأييد ذلك العدوان الإجرامي؛
مُدَّعية - زوراً وبهتاناً - أن ذلك الكيان يدافع عن نفسه بإقدامه على ما أقدم عليه. فهل موقف أمريكا هذا غريب؟
لقد كان هجوم أعداء أُمَّتنا على أقطار من أقطارها - قبل القرن العشرين - مُركَّزاً، بدرجة كبيرة، على أطرافها؛ شرقاً وغرباً. وفي القرن العشرين تَركَّز الهجوم على قلب تلك الأقطار؛ مُمثَّلاً في فلسطين. وكل عدوان على غير فلسطين ذو صلة واضحة وضوح الشمس بهذا القطر العربي الإسلامي.
كان الفكر المتصهين قد ظهر بين البروتستانت من المسيحيين بالذات منذ عهد لوثر، الذي جعل المرجعية الدينية ما يُسمَّى بالعهد القديم المشتمل على التلمود المليء بأمور باطلة وخرافات واضحة. ثم تَجلَّى ذلك الفكر المتصهين في القرن السابع عشر؛ وبخاصة لدى أولئك الأوروبيين، الذي احتلُّوا أمريكا الشمالية، وارتكبوا أفظع الجرائم في حق أهلها الأصليين. ولَعلَّ من أوضح الأَدلَّة على ذلك التصهين تسمية بعضهم أمريكا بإسرائيل الجديدة، وأن أَوَّل رسالة دكتوراه في جامعة هارفرد الشهيرة كان عنوانها: اللغة العبرية هي اللغة الأم، وذلك عام 1642م، وأن الرئيس الأمريكي، جون آدمز: نادى - عام 1818م - بقيام دولة يهودية مستقلة في فلسطين، وذلك قبل وعد بلفور المشؤوم بمئة عام. وكان الرئيس الأمريكي «ولسون»، صاحب المبادئ الجميلة في مظهرها العام، أَوَّل زعيم دولة يعترف بذلك الوعد ويُؤيِّده بعد أشهر قليلة من إعلانه عام 1917م.
والتصهين برهان واضح على معاداة أُمَّتنا، ودعم الإدارات الأمريكية المتعاقبة للصهاينة؛ سياسياً وعسكرياً ومالياً، قبل إقامة الكيان الصهيوني العنصري المجرم في فلسطين عام 1948م، وبعد إقامته، أمر يعرفه جميع المتابعين للشأن الفلسطيني. وهناك من يقول : إن سبب انحياز أمريكا - والبلدان الغربية على العموم - هو عدم قدرة العرب - وبينهم الفلسطينيون - على عرض قضيتهم عرضاً جيداً للرأي العام في البلدان الغربية. وفي ذلك شيء من الصحة، لكنه ليس السبب الأقوى. ولَعلَّ من أهم الأسباب - في نظري - أن الأرضية في البلدان الغربية خصبة مُهيَّأة لِتقبُّل الدعوة الصهيونية بالترحاب على العموم من حيث النظرة الدينية ومن حيث الفكر الحضاري. وإن من الصعب التسليمَ بأنه لم يوجد من الزعماء العرب من عرضوا قضية فلسطين على زعماء الغرب عرضاً جيداً. فلقد عرض الملك عبد العزيز، رحمه الله، تلك القضية للرئيس الأمريكي «روزفلت» - مثلاً - عرضاً جميلاً وافياً؛ سواء في الرسائل المتبادلة بينهما أو في المقابلة الشخصية لهما. فماذا كانت نهاية ذلك؟ لم يُجد ذلك العرض الجميل الوافي نفعاً.
كان ذلك قبل إقامة الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، أما بعد إقامته فإن موقف أمريكا - مع اختلاف إدارتها بين جمهوريين وديمقراطيين - لم تختلف جوهرياً من حيث معاداة أُمَّتنا معاداة واضحة فاضحة تَتمثَّل في مساندة الصهاينة مساندة غير محدودة، وصلت إلى حَدِّ بناء جسر جوي سريع لدعم كيانهم عند رجحان كفة العرب في حرب 1973م؛ بل ومشاركة طيارين أمريكيين في تلك الحرب. أما الدعم السياسي الأمريكي لذلك الكيان العدواني المجرم؛ فلو لم يكن من أَدلَّته إلا وقوف أمريكا ضد أيِّ قرار في مجلس الأمن لا يرضى عنه ذلك الكيان لكفى.
ولم يقتصر انحياز أمريكا إلى الكيان الصهيوني على ما هو على أرض فلسطين مباشرة؛ بل امتدَّ ليشمل كل ما له صلة بها. وقد بلغ هذا حَدَّه في عهد الرئيس بوش الابن، الذي حَطَّم قوة العراق عام 1991م؛ لأنها - كما قال وزير خارجيته بيكر - كانت الخطر الاستراتيجي الحقيقي على إسرائيل؛ أي على الكيان العنصري الصهيوني، والذي ارتكب مع مسانده، أو تابعه البريطاني بلير، احتلال العراق؛ عدواناً عام 2003م، دون الرجوع حتى إلى مجلس الأمن، الذي هو لعبة بيد أمريكا بدرجة كبيرة. وما اُرتكب عام 1991م، كما قال بيكر، وعام 2003م كما قال رئيس أركان الجيش الأمريكي، كان خدمة للصهاينة.
وماذا عن الرئيس الأمريكي الحالي، الذي هتف من هتف من المصريين قائلاً له: « أحبك يا أوباما»؛ وذلك عند إلقائه خطابه المشهور في جامعة القاهرة؟
في عهد أوباما لم تَتغيَّر السياسة الأمريكية المنحازة للكيان الصهيوني المعادية للعرب؛ وبخاصة في قضية فلسطين، وما كان لتلك السياسة أن تَتغيَّر. أما وعوده التي ربما انخدع بها من انخدع، فقد اتَّضح أنها سراب بِقِيْعَة يحسبه الظمآن ماء. ومن الأَدلَّة على عدم تَغيُّر السياسة الأمريكية العدائية في عهده مطالبة الإدارة الأمريكية للعرب أن يعترفوا بيهودية الكيان الصهيوني. وسكوت هذه الإدارة عن تهويد الضفة الغربية بما في ذلك القدس، والاعتراف أخيراً بوحدة القدس تحت سيطرة ذلك الكيان. وفي ضوء كل ما سبقت الإشارة إليه: هل موقف أمريكا من العدوان الصهيوني الأخير على غَزَّة وأهلها؛ وهو العدوان الذي لم يسبق مثله شراسة وعنفاً، غريب؟