في الحلقة الأولى من هذه المقالة أشرت إلى ما عمل من أجل تحقيقه ابن غوريون، أول رئيس لمجلس وزراء الدولة الصهيونية؛ وهو تقسيم الوطن العربي على أساس طائفي وعِرْقي. ولقد تَمَّ الكثير مما عمل من أجل تحقيقه ذلك الزعيم الصهيوني مع الأسف..
الشديد. فبعض أقطار أُمَّتنا تَقَسَّمت، أو قُسِّمت، على ذلك الأساس الطائفي أو العِرْقي. وبعض أقطار أُمَّتنا يبدو أنها ستنقسم، أو تُقسَّم. ومن مشكلات أُمَّتنا الكبرى أن بذرة الانقسام؛ أو التقسيم، على الأساس المشار إليه موجودة في مجتمعاتنا. وهي كالفتنة نائمة ما دام يوجد من يعمل بجدٍّ كيلا تمدَّ عنقها. لكن إذا لم يوجد من لديه النيَّة المخلصة والحزم فإن عنقها سيمتد، وتكون العواقب وخيمة.
ولأن الحديث عن العراق في المقالة فإني أذكر أن الأكراد في شمال العراق قاموا بحركة ضد الحكومة المركزية في بغداد. لكن الحكومة المركزية هزمتها. وكان وزير داخلية تلك الحكومة سعيد قَزَّاز، وهو من أصل كردي. وهرب الملا مصطفى البرازاني إلى الاتحاد السوفيتي. ولما قُضِي على الأسرة المالكة في العراق، وعلى نوري السعيد وحكومته، عام 1958م، عاد البرازاني إلى العراق، ووضع يده بأيدي الشيوعيين العراقيين، الذين كانوا يقتلون خصومهم ويسحلونهم في الشوارع ويُعلِّقونهم في أعمدة الكهرباء. وفي عام 1959م دفن الأكراد، المتحالفون مع الشيوعيين، التركمان أحياء في كركوك.
ولما أطاح القوميون العرب، بعثيين وغير بعثيين، بالزعيم عبد الكريم قاسم وحكومته، وقُتِل هو ورئيس محكمته المهداوي وأعوانهما، بدأ اتِّصال مصطفى البرازاني بالصهاينة. وزار الدولة الصهيونية، واتَّفق مع زعمائها على أن يُدرِّبوا أتباعه من البشمركة خارج العراق. لكن لما فرضت أمريكا وأنصارها من الدول حصاراً على طيران الجيش العراقي بحيث لا يذهب إلى شمال العراق أصبح التدريب يَتمُّ في المناطق الكردية من العراق. وإذا كان الشيء بالشيء يذكر فإن مما يذكر، هنا، أنه كما دفن الأكراد التركمان أحياء في كركوك، عام 1959م، فإنه كان للبشمركة من الأكراد دور سيئ في الفتك بالفلوجة قبل عدة سنوات؛ مشاركين للحكومة التي كوَّنها المحتل في العراق والمؤتمرة بأمر إيران. ومن الواضح أن الأكراد الآن يَتصرَّفون تَصرُّف الدولة المستقلة عن الحكومة المركزية في بغداد. ومن المحتمل جدّاً أن يعلن الأكراد أنفسهم دولة مستقلة. بل بلغ الأمر إلى أن المنتخب للبرلمان العراقي إذا كان من أصل كردي يؤدي القسم باللغة الكردية لا باللغة الرسمية للدولة؛ وهي العربية. وكل هذا في مصلحة الكيان الصهيوني. وكل ما هو من مصلحة هذا الكيان فإنه هدف تسعى لتحقيقه أمريكا.
ومما يُستغرَب أن يوجد من يقولون: إن أمريكا فقدت الكثير؛ نفوساً وأموالاً، باحتلالها العراق. وفات هؤلاء أن هذا الاحتلال، الذي حَذَّرت من وقوعه وسوء نتائجه قيادة وطننا العزيز، كان الهدف منه مصلحة الصهاينة؛ إذ قُضِي به على قوة العراق التي كانت الخطر الإستراتيجي الحقيقي على الكيان الصهيوني. وما يشاهده المرء من تفجيرات ومجازر في العراق ينذر بأن تقسيم العراق في طريقه إلى الحدوث. وكنت قد أشرت إلى ذلك بأبيات من قصيدة عنوانها: «صدى العيد» وهي مستوحاة من قصيدة المتنبي التي مطلعها: «عيدٌ بأيَّةِ حالٍ عدت يا عِيدُ»؛ بحراً وقافية. وتَتضمَّن ذكر أشياء ورد ذكرها في قصيدة ذلك الشاعر العملاق. أما أبيات قصيدتي فهي:
السادرون من الحُكَّامِ دَيدنُهم
في كُلِّ نازلةٍ شَجْبٌ وتَنديدُ
باعوا المَوَاطن كي تبقى مناصبهم
يحيطها من رضا الأسياد تَأييدُ
والمشفقون على دار السلام عَلتْ
وجوهَهم من مآسيها تجاعيدُ
جحافل الموت قد حَلَّت بساحتها
وضِيم في لابتيها أهلها الصِّيدُ
وملتقى الرافدين المُستطابُ غدا
فيه لأقدامِ مُحتلِّيه توطيدُ
أين المَفرُّ؟ وهل في الأُفْق من أَملٍ
يُرجَى؟ وهل يعقب التمزيقَ توحيدُ؟
مُستقبلٌ ليس يدري كُنهَه فَطِنٌ
في رأيه عند طرح الرأي تَسديدُ
والعيد عاد ودامي الجرح يسأله
«عيدٌ بأيَّةِ حالٍ عدت يا عِيدُ؟»
وما يشاهده المرء من ازدياد تدهور الأمور في العراق في الأشهر الأخيرة بالذات تنذر بأنه كما قُضي على سوريا؛ تقتيلاً وتدميراً، فإن العراق قد تأخذ المسار نفسه.