نِعَم الله على عباده لا تُعَدُّ ولا تُحصى. ومن نِعَمه الجليلة على الأمة المسلمة أن هداها للإسلام، الذي هو الدين القَيِّم. فآمنت بالله ربّاً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبيّاً ورسولاً. وأنعم على هذه الأُمَّة بأن جعل لها موسم خير قطوف ثمارها يانعة.
وأُمَّتنا الآن تعيش موسماً عظيماً. هو: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} وهو الشهر الذي أخبر من لا ينطق عن الهوى، خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، صلَّى الله عليه وسلَّم، أن الله - سبحانه - خَصَّه به - جَلَّ شأنه - فهو يجزي به من بين الأعمال الصالحة، وجعل ثلثه الأول رحمة، وثلثه الأوسط مغفرة، وثلثه الأخير عتقاً من النار.
وإلى جانب ذلك - وما أَعظمه وأَجلَّه ! - فإنّ شهر رمضان المبارك شهر انتصارات لأُمَّتنا المسلمة على أعدائها في معارك حاسمة. وفي طليعة تلك المعارك الحاسمة معركة بدر الكبرى. ففي السابع عشر من رمضان، السنة الثانية للهجرة، وقعت تلك المعركة العظيمة، التي نصر الله بها الفئة القليلة من عباده المؤمنين على جحافل الظلم والبغي والطغيان. وقد ذكرها الله - سبحانه بقوله عنها: {يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} وفي العشرين من الشهر المبارك حدث يوم فتح مكة.
أجل. في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة وردت الأخبار إلى النبي، صلَّى الله عليه وسلم، في طيبة الطيِّبة أنّ أبا سفيان، أحد زعماء قريش، خرج من الشام إلى مكة بقافلة تجارية كبيرة لقريش. فانطلق، عليه الصلاة والسلام، مسرعاً من المدينة ومعه ثلاث مئة وبضعة عشر رجلاً يعتقبون سبعين بعيراً. ولم يكن معهم من الخيل إلا فرسان؛ فرس الزبير بن العوام وفرس المقداد بن الأسود. وكان هدفهم من ذلك الانطلاق السريع اعتراض تلك القافلة التجارية. ولم يدر بخلد واحد منهم أنه مقبل على يوم من أخطر أيام الإسلام وأعظمها. وتفصيلات تلك المعركة .. الفرقان .. موجودة في كتب عديدة. والدروس المستفادة منها موضحة في تلك الكتب، إضافة بطبيعة الحال إلى القرآن الكريم. ولما انتهت المعركة قال النبي، صَلَّى الله عليه وسَلَّم: الحمد لله وحده، نصر عبده، وهزم الأحزاب وحده.
وفي العشرين من رمضان حدث فتح مكة. وكان السبب المباشر لذلك الفتح العظيم نكث زعماء قريش بالعهد الذي عاهدوا به النبي، صَلَّى الله عليه وسَلَّم، وأصحابه الغُرَّ الميامين في صلح الحديبية. وتفصيلات فتح مكة؛ سبباً ومسيرةً إلى تلك البلدة المقدسة، ونتائجَ عظيمة، تحفل بها صفحات كتب السيرة النبوية. ومما ورد فيها أنه صَلَّى الله عليه وسَلَّم؛ وهو يدخل مكة منتصراً بنصر الله ومؤيَّداً بتأييده: كان مطأطئ الرأس تواضعاً لخالقه الذي نصره وأَيَّده، وأنه بعد قضائه على الأصنام التي كانت حول الكعبة المُشرَّفة، قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده، وأعزَّ جنده، وهزم الأحزاب وحده. ثم قال: يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم؟. قالوا : خيراً أخ كريم وابن أخ كريم. قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء. وهكذا انتصر الإيمان على الكفر. وتَجلَّى تعامل سيد الأولين والآخرين - عليه أفضل الصلاة والتسليم - في أبهى صوره وأعظمها إخلاصاً للمُنعم عليه وعلى المؤمنين بذلك الفتح العظيم، وتسامحاً منقطع النظير مع الخصم المغلوب المنكسر، وحكمة لا تُضاهى آتت ثمارها المرجوة كاملة غير منقوصة.
هدى الله الجميع للاقتداء بسيرة نبيِّنا الكريم العطرة، والتَّحلِّي بصفات صحابته الغُرَّ الميامين. ونصرنا على أنفسنا لندرك الخير، ونسلك الطرق المؤدِّية إلى النصر على من أشهروا العداوة لنا ولديننا، وواصلوا ارتكابهم الجرائم ضد أُمَّتنا في كثير من ربوعها.