عداوة الصهاينة لأُمَّتنا العربية معروفة كُلَّ المعرفة. وقد ذكر الله - سبحانه - في كتابه العزيز أن اليهود أَشدُّ الناس عداوة للمؤمنين. وعداوة اليهود لأُمَّتنا واضحة كلَّ الوضوح قبل إقامتهم دولتهم العنصرية في فلسطين، عام 1948م، وبعد إقامتهم تلك الدولة؛ وفي الأيام الأخيرة حدث اختفاء ثلاثة صهاينة من الذين يُسمَّون المستوطنين، وُجِدوا مقتولين.
فكثَّف الصهاينة هجماتهم على الفلسطينيين؛ رجالاً ونساءً، شيوخاً وأطفالاً. بل راحوا يرتكبون جرائم إبادات جماعية. وادَّعت وسائل الإعلام الصهيونية أن ذلك رَدُّ فعلٍ لقتل أولئك الصهاينة الثلاثة. وليس غريباً أن تَتبنَّى وسائل الإعلام في الغرب، وبخاصة في أمريكا المتصهينة، ما يقوله الصهاينة. ذلك أن من المتصهينين من هم أشد يهودية من اليهود أنفسهم كما قال المؤرخ الأمريكي اليهودي ليفنجر. لكن ما هو شديد الإيلام أن يرى المرء وسائل إعلام تتكلم قنواتها بالعربية، لكنها تُعبِّر من حيث المضمون عن موقف الصهاينة والمتصهينين.
قبل أربع سنوات كتبت مقالة نشرت في صحيفة الحياة بعنوان :» بيع الأوطان بالمزاد العلني». ومما أوردته في تلك المقالة: أمام معطيات الحاضر الحافل بالتنازلات العربية الخطيرة المنذرة بكوارث استسلامية لا يعلم مدى كارثيتها إلا الله وحده أجدني مدفوعاً إلى طرح هذا السؤال: هل يرتفع مستوى طرح قادة أُمَّتنا؛ فلسطينيّاً وعربيّاً، بحيث يصل إلى مستوى طرح الحاخام الإسرائيلي - مايكل ليرنر؛ وهو الذي أبداه في مقالة نشرها في صحيفة التايمز اللندنية بعنوان ترجمته: « يُحطِّم قلبي أن أرى غباء إسرائيل». ومن النقط الواضحة في ذلك الطرح الحاخامي ما يأتي:
- تَفتح إسرائيل حدودها مع قطاع غَزَّة، وتسمح بالانتقال الحر من إسرائيل وإليها مع حق التفتيش بحثاً عن الأسلحة فقط، وتسمح بدخول الأغذية والوقود والكهرباء والمياه والغاز والبضائع الاستهلاكية ونقلها بكل الطرق؛ براً وبحراً وجواً.
- تُفرِج إسرائيل عن كل المعتقلين الفلسطينيين في سجونها، وتسمح لهم بالعودة إلى الضفة أو غَزَّة حسب اختيارهم مقابل إطلاق سراح الجندي جلعاد شاليط وأَيِّ محتجزين آخرين.
- يدعو الطرفان قوة دولية لمراقبة تطبيق هذا الاتفاق.
- يَسري وَقف إطلاق النار لمدة عشرين عاماً، على أن تُفرَض عقوبات صارمة في حالة مخالفته.
وإضافة إلى ما سبق يستدرك الحاخام ليرنر، فيقول : إنه يَتعَّين على إسرائيل - باعتبارها القوة العسكرية المُتفوِّقة - أن تبدأ الخطوات الأولى بأن تُطبِّق خطة شبيهة بمشروع مارشال في غَزَّة والضفة لإنهاء الفقر والبطالة وإعادة بناء البنية التحتية، وتشجيع الاستثمار، وتفكيك المستوطنات أو جعل المستوطنين مواطنين في الدولة الفلسطينية، والسماح بعودة ثلاثين ألف فلسطيني سنوياً إلى إسرائيل لمدة ثلاثين عاماً القادمة، وأن تعتذر إسرائيل عن دورها في طرد هؤلاء عام 1948م، وتعرض تنسيق الجهود الدولية للتعويض عن خسائر الفلسطينيين خلال فترة الاحتلال، وأن تعترف بالدولة الفلسطينية في إطار حدود سبق تحديدها في اتفاقية جنيف عام 2003م.
ذلك هو طرح الحاخام مايكل ليرنر لحل القَضيَّة الفلسطينية. ومع أنه لم يشر صراحة إلى مدينة القدس إلا أن فيما طرحه جوانب إيجابية لم يصل إلى مستواها بعض قادة أُمَّتنا.
أما في هذه الأيام فمن أجود ما كُتِب عن حرب الإبادة التي يرتكبها الصهاينة ضد غَزَّة وأهلها، مقالة للدكتور شفيق ناظم الغبراء، أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت، ونُشِرت في صحيفة الحياة بعنوان: «غَزَّة في ميزان المقاومة». ومما ورد في تلك المقالة:
«إن معركة غَزَّة مثل كل معارك القضية الفلسطينية تكشف بوضوح مأزق القوى الإقليمية. بعض الدول العربية أخذ موقف الحياد، وكأن غَزَّة هي «الإخوان المسلمون» وليست شعباً متكامل الأركان يمثل القضية الفلسطينية ورمزيتها واستمرارها. إن ما يقارب 70 في المئة من سكان غَزَّة هم من المناطق نفسها التي وقعت تحت سيطرة إسرائيل عام 1948م، والتي أَدَّت إلى طردهم وتهجيرهم ومصادرة كل ممتلكاتهم. إن الحياد العربي عندما يقع لا يعكس طموحات الشعوب وأمانيها. وتؤكد المشاهدات أن الحياد العربي، وأحياناً القبول بالعدوان انطلاقاً من الرضوخ للقوة، هو من أكثر ما يثير الجماهير العربية ويحرك شارعها في المدى المنظور، وعلى الأخص في المدى غير المنظور.
مصر، التي خسرت غَزَّة في حرب 1967م، طالما اعتبرتها بوابتها الشرقية وحماية لأمنها القومي. لقد خاضت خمس حروب متتالية ضد إسرائيل وذلك في ظل فهمها لأمنها القومي ومن تلك الحروب حرب الاستنزاف 1969 وحرب 1973م. لهذا، فترك إسرائيل تقصف وتدمر وتجوع وتحاصر وتهجر وتقتل على هذا النطاق فيه اختراق لمصر وأمنها على الصعيد الإستراتيجي. إن الوقوف على الحياد وعدم فتح معبر رفح بصورة دائمة وفورية، بخاصة أمام الجرحى والاحتياجات المباشرة للقطاع والإمداد المدني على الأَقلِّ فيه تغليب للتكتيكي (الخلاف مع «حماس») على الإستراتيجي والقومي. وفي هذا خطر كبير على مصر. وقد تشكل المبادرة المصرية التي لم تلبِّ مطالب المقاومة، بداية لنقاش حول شروط وقف لإطلاق النار. فكل وقف لإطلاق النار بين غَزَّة ودولة الاحتلال الإسرائيلي سيبقى هشاً في ظِلِّ استمرار سياسة التهويد في الضفة الغربية والقدس وفي ظل استمرار الاحتلال. مشكلة غَزَّة ليست معزولة عن بقية فلسطين. إن أي محاولة لعزلها ستنتهي إلى فشل.
وليتحقق وقف إطلاق نار لا بد من شروط منها إطلاق سراح الأسرى الذين تَمَّ اعتقالهم منذ أيام في الضفة الغربية، إضافة إلى (وهو الأهم مرحلياً) فتح المعابر على مدار الساعة أمام الجميع وذلك لإيقاف محاولات خنق غَزَّة التي يقطنها مليون وثماني مئة ألف مواطن فلسطيني. فحق السفر من وإلى غَزَّة يجب أن يكون مكفولاً لكل مواطن وحق استيراد البضائع وتصديرها يجب أن يكون مكفولاً لكل غَزَّة. الحصار شكل من أشكال الإبادة والخنق، وما يمارسه الاحتلال يجب أن يقاوم، لكن المعبر من الجانب العربي المصري في رفح يجب أن يفتح على مدار الساعة، إضافة إلى ضرورة تطويره ليخدم كل غَزَّة.
ليس جديداً أن بعض وسائل الإعلام العالمية والعربية تتماهى مع القوة فتكون مع المستعمِر على حساب المستعمَر، ومع الظالم ضد المظلوم. لكن النشيطين والحقوقيين والمهمشين والضعفاء في عموم العالم العربي، بل والعالم يشعرون برابط تجاه غَزَّة ومقاومتها للجبروت، هذا يجعل فلسطين قابلة للتحول إلى رمز متجدد لمواجهة الظلم.
منذ جاء الصهاينة إلى فلسطين في أوائل القرن العشرين لم يتغير المشروع الصهيوني. المشروع ركز منذ البداية على أخذ ما يمكن أخذه من الأرض، وطرد من يمكن طردهم من السكان، وجلب من يمكن جلبهم من يهود العالم في ظل التحالف مع دولة كبرى، ثم التمادي فتكاً وظلماً ومصادرة في إضعاف الرافضين والمعارضين من سكان البلاد الأصليين وامتداداتهم الثقافية والعربية والإسلامية والإنسانية. هذا جوهر الصهيونية بصفتها عقيدة عنصرية وإجلائية واستيطانية واستعمارية تنتمي في الجوهر إلى القرن التاسع عشر.
إن ما تقوم به إسرائيل يقع في سياق تاريخي مستمر منذ عقود. فالدولة الصهيونية في نسختها التاريخية، والتي قامت عام 1948م على أراضٍ لم تكن ملكاً لها: هدمت مئات القرى والمناطق العربية وطردت شعباً وهجرت شعوباً أخرى على الحدود، ثم صادرت الممتلكات ومنعت عودة كل من صادرت أراضيهم ودمرت قواهم ومدنهم. إسرائيل التي سعت إلى حل المشكلة اليهودية لم تحل المشكلة اليهودية، بل خلقت مشكلة إنسانية وحقوقية وسياسية أعمق منها تشمل العالم العربي برمته والشرق الأوسط، بل والعالم الأوسع.
إن مناصرة غَزَّة هي مناصرة لقضية قادرة على تجميع العالم العربي وتوحيد قواه وتوسط نزاعاته، فصمود غَزَّة يشعل شمعة في طريق شعب وإقليم عربي يعيش ظلماً تاريخياً متجدداً.