يَسرُّني أن أزفَّ التهنئة بحلول شهر رمضان المبارك. تقبَّل الله من الجميع كل عمل صالح فيه.
أما بعد:
ففي هذه المقالة سأحاول الإشارة باختصار إلى
مسلسل البلاء الذي حلَّ بالعراق ابتداء من منتصف القرن الميلادي الماضي. ومن الإشارة إلى هذا المسلسل يمكن أن تَتَّضح ما يجري الآن أو بعض جوانبه. ومن الأمور التي يعرفها المتابعون لقضايا أُمَّتنا ما صرَّح به، وعمل من أجل تحقيقه، بن غوريون، أَوَّل رئيس لمجلس وزراء الدولة الصهيونية، تقسيم الوطن العربي على أساس طائفي وعِرْقي.
حينذاك كانت العراق تحت حكم ملكي. وكان لنوري السعيد، السياسي المُحنَّك، دور كبير في تسيير أمورها. ولقد تَحقَّق فيها الشيء الكثير من التقدُّم العمراني والإنتاج الزراعي بالذات. والمعروف عن ذلك السياسي أنه مُتقبِّل للنقد، وأنه كان نظيف اليد بالنسبة للمال العام.
وفي عام 1958م قاد عبد الكريم قاسم، الذي كان برتبة زعيم في الجيش العراقي، ثورة دموية قضت على الأسرة الملكية الحاكمة وعلى نوري السعيد. وفي عهد عبد الكريم قاسم سيطر الشيوعيون على مفاصل الحياة في العراق، وارتكبوا جرائم بشعة بينها سحل من رأوهم خصوماً لهم في الشوارع وتعليق جثثهم بأعمدة الكهرباء.
وفي عام 1959م خَطَّط ذوو التَّوجُّه القومي العربي للتخلُّص من حكم الشيوعيين انطلاقاً من الموصل. لكن تخطيطهم لم ينجح. وارتُكِبت في تلك المدينة جرائم شنيعة. وكان الأكراد بزعامة الملا مصطفى البارزاني متحالفين مع الشيوعيين، فدفنوا التركمان في كركوك أحياء. وكنت قد أشرت إلى ذلك في قصيدة كتبتها، تلك الأيام، قائلاً:
بغداد ما برحت تَجرُّ طيوفها
حُرٌّ يُمزَّق أو شهيد يُسحَلُ
وطيوف أعمدة الضياء ويا لَها
بجسوم أبطال التحرُّر تُثقَلُ
ومُهرِّج الطاغين يصرخ فيهمُ
لِتدُقَّ مِطْرقة ويَحصدَ مِنْجلُ
مهما تناسيت المجازر والدِّما
كركوك لن تنساهما والموصلُ
وفي عام 1963م قام القوميون العرب، بعثيين وغير بعثيين، بانقلاب على عبد الكريم قاسم، وقضوا عليه وعلى رجاله. لكنهم ما لبثوا أن انقسموا فيما بينهم، وأخذ بعضهم يحارب بعضهم الآخر. إلى أن استقرت الأمور بيد صَدَّام حسين. وفي عهد صدام ارتُكِبت جرائم شنيعة. لكن الجيش العراقي بقيت له هيبته ووحدته. بل إنه أصبح قوة تُمثِّل الخطر الاستراتيجي الحقيقي على كيان الدولة الصهيونية، كما قال السيد بيكر، وزير خارجية أمريكا. ولأنه أصبح كما ذُكِر سعى المتصهينون في أمريكا- وهم لا يَقلِّون عداوة لأُمَّتنا عن الصهاينة - إلى القضاء على قوة العراق. وكان أن اقترح عدد من المتصهينين في أمريكا؛ بينهم تشيني، الذي أصبح نائب رئيس أمريكا - أن تُغزَى العراق وتُحتَل ليُقضَى على قوتها. وكان ذلك الاقتراح قبل حادثة الحادي عشر من سبتمبر المشهورة. ونُفِّذ الاقتراح. واحتُلَّت العراق ليصبح حاكمها بريمر. وحُلَّ الجيش العراقي. وعمل بريمر دستوراً يكرِّس الطائفية والعِرْقية. وقد عُهِد بكتابة مواده إلى يهودي صهيوني من أصل عراقي يعيش في أمريكا.
ومن الواضح أنه كان هناك تنسيق بين أمريكا وإيران في التعامل مع العراق. وقد صَرَّح وزير خارجية إيران أن أمريكا تعلم أنه لولا إيران لما استطاعت أن تسيطر على أفغانستان. ومن المعلوم أن أمريكا سمحت - بعد احتلالها العراق - لأعداء أُمَّتنا أن يدخلوا من إيران إلى العراق بكامل أسلحتهم ليصبحوا هم المسيطرين على الأمور الداخلية العراقية. وفي ظِلِّ الاحتلال الأمريكي للعراق ارتُكِبت جرائم شنيعة بينها ما ارتُكِب في السجون مثل سجن أبي غُريب. وهذا لم يكن غريباً على احتلال دولة عُرفت بتغطرسها وسوئها.
وفي هذه الأيام تزداد أعداد القتلى بمختلف الوسائل. وتدور أحاديث عن مصير نوري المالكي المُؤتَمِر بأمر المرجعية الإيرانية. فالمُتأمِّل للموقف الأمريكي يرى عدم عزمه على اتِّخاذ موقف واضح، لكن ما توحي به بعض كلمات ساسة أمريكا هو أنهم يُفضِّلون بقاء المالكي في الحكم. والدليل دعم أمريكا له عسكريّاً. وإذا كان هذا هو موقف أمريكا التي تثبت الأيام أن زعامتها مُتردِّدة فما بالك بإيران ذات الزعامة المُتَّصفة بالدهاء؟ بعض قادة إيران يُفهَم من ألفاظ تصريحاتهم أنهم يستحسنون إبدال نوري المالكي بغيره. وكأنهم واثقون أنهم قادرون على أن لا يُبدَّل بمن هو يختلف عنه ولاءً لهم. ومن الشخصيات التي ترد أسماؤها هذه الأيام أحمد الجلبي. ومن المعروف أن هذا هو الذي أخبر أعداء أُمَّتنا كذباً أن لدى العراق - زمن صَدَّام حسين - أسلحة دمار شامل. وقد استقال وزير خارجية أمريكا، السيد باول، بسبب انخداعه وتصديقه ذلك الكذب. وإذا تأمَّل المرء تاريخ العراق منذ الإطاحة بالحكم الملكي يرى أنه من سيئ إلى ما لا يُقلَّ سوءاً إن لم يزد على ذلك.
وكنت قد أشرت في بعض الأبيات إلى شيء مما ذكرته من حوادث. ومن ذلك ما ذكرته في قصيدة عنوانها: « لا تلوموه إذا غضبا «؛ وهو تعليق على موقف من غضب عليَّ لإيضاحي حيف أمريكا على العرب. ومن أبيات تلك القصيدة:
لا تلوموه إذا غضبا
مثلكم من يعرف السببا
حُبُّ أمريكا تَملَّكه
فغدت أُمَّا له وأَبا
ومُعنَّى الحُبِّ مُهجتُه
تَفتدي مَحبوبَه طَرَبا
مَا لَه إن كان فَاتنُه
يَكرهُ الإسلامَ والعَرَبا
أو يَكنْ قَد دَكَّ جحفلُه
صَلَفاً بَغدادَ واغتصبا
فَتَجلَّى فَوقَ سَاحتِها
بَطشُ هولاكو وما ارتكبا
وفي قصيدة لي بعنوان «صدى العيد « ورد:
والمشفقون على دار السلام عَلَتْ
وجوهَهم من مآسيها تَجاعيدُ
جحافل الموت قد حَلَّت بساحتها
وضِيمَ في لابتيها أهلها الصِّيدُ
وملتقى الرافدين المُستطابُ غدا
فيه لأقدام مُحتلِّيه توطيدُ
وفي قصيدة عنوانها: « نهر من العجب « ورد:
من يكابرْ في تجاهله
حَيْفَ أمريكا على العَرَبِ
فهو جافٍ عند أُمَّته
موجباتِ الدِّين والنَّسبِ
مثلُ من قد باع مَوطنَه
لذوي الطُّغيان كالجلبىِ
ومنها:
يا زماناً بات ممطره
إذ همى نهراً من العَجَبِ
كيف لا يبدو لناظره
ما بدا من جُرمِ مُغتصبِ!
سُلِّمت بَغدادُ في طبقٍ
لعلوجِ الحقدِ من ذَهبِ
وتَلظَّى في مرابعها
مستطيرُ الرُّعبِ من لهبِ
وجَنَتْ صهيونُ ما حلمتْ
فيه من مُستَعذَبِ الأَربِ
كل ما يرجوه كاتب هذه السطور أن يشفي الله أُمَّتنا من بلائها بمختلف صوره.