دراسة القانون لها مكانة اعتبارية خصوصاً في أمريكا. ولذا فهم لا يدرسونه في مرحلة البكالوريس لأنهم يرون أن الدارس يحتاج إلى عقلية ناضجة وراكزة نوعاً ما قبل البدء في دراسته. كما أنه لا يُقبل عادة في الجامعات الراقية من يقدم على دراسة القانون قبل أن يكون قد عمل بعض سنوات بعد تخرجه من البكالوريس. فمن سرعة انخراطه في العمل ونوعه وإنجازاته تقيم لجنة القبول رأيها على شخصيته وعقليته. وبالإضافة إلى هذا فهو يحتاج لأن يجتاز اختباراً منطقياً ولغوياً شديد الصعوبة. وبالإضافة إلى هذا، فإن جميع شركات القانون والهيئات القانونية المحترمة في أمريكا، لا تعتبر في التوظيف إلا من خريجي أرقى أربع عشرة جامعة أمريكية - تسمى تي 14- أي أرقى 14، وذلك من بين 203 جامعة معتمدة في القانون من هيئة الاعتماد القانونية (وهي الهيئة المخولة باختبار المحامين لحصول رخصة المحاماة واعتماد الجامعات).
ما أتحدث عنه ليس شهادة الماجستير ولا الدكتوراه في القانون، فكلا البرنامجين لا يستلزم اختبار القبول الصعب، ولا فترة عمل قبلها. ولا تكترث بهذه البرامج هيئة الاعتماد ولا تعتمدها، وتنفي اعتماد أي برنامج غير الـ«جي دي». فكون الجامعة مُعتمدة في القانون فلا يعني هذا إلا اعتماد برنامج واحد فقط فيها وهو ما يسمى بالـ«جي دي» أي دكتوراه في فقه القانون، بخلاف الدكتوراه في فلسفة القانون (وهناك دكتوراه في علوم القانون). فالـ«جي دي» دكتوراه مهنية تعتني بالتطبيق، والأخرى في التنظير وفلسفة القانون. وأقرب الأمور لفهم دكتوراه فقه القانون هي شهادة الطب، فكلاهما مهني تطبيقي. ودكتوراه فقه القانون هي التي تحظى بكل هذا الاعتناء الذي ذكرته من قبل، وبها تأخذ الجامعات سمعة الاعتماد والشهرة في القانون، لا دكتوراه الفلسفة ولا العلوم في القانون.
هذه الشهادة، وخصوصاً إذا كانت من جامعات «تي 14» تعتبر من أقوى وأشرف الشهادات في أمريكا على الإطلاق، والحاصلون عليها من الـ«تي 14» غالباً ما يتبوأون أعظم المناصب والمراكز. فمن بين رؤساء أمريكا الأربعة والأربعين، أربعة عشر حاصلين على هذه الدكتوراه، ومن آخرهم كلينتون وأوباما. وجميع أعضاء المحكمة العليا الفدرالية يحملون فقط هذه الشهادة ولا يحملون دكتوراه فلسفة القانون أو علومه. وكذلك الحال هو مع جميع قضاة أمريكا ومن يشغل منصب الإدعاء العام في المحاكم الأمريكية، والمحامين. فدكتوراه فقه القانون هي الشرط اللازم لممارسة أي عمل قانوني في أمريكا. ومن بين مديري أغنى وأقوى 500 شركة في أمريكا 51 (أي العُشر) من المديرين التنفيذيين هم ممن حصل على شهادة دكتوراه فقه القانون الـ«جي دي».
هذه لمحة عن حملة الـ«جي دي» من الجانب المهني، فماذا عن الجانب الأكاديمي؟ سنجد أن معظم الغالب من أساتذة القانون في أرقى الجامعات الأمريكية لا يحملون إلا هذه الشهادة الـ«جي دي» ولا يحملون دكتوراه الفلسفة في القانون ولا في علومه ولا أي دكتوراه أخرى. وجامعة هارفرد التي تُفصل كثيراً من برامج القانون للأجانب، وتعتبر تاريخياً أعظم معقل للقانون في أمريكا، كلهم حملة الـ«جي دي» فقط ولا يوجد بين أعضاء هيئة تدريسها إلا اثنان فقط يحملون دكتوراه فلسفة القانون، لا فقه القانون الـ«جي دي»، ولكنهما يحملان مع دكتوراه فلسفة القانون دكتوراه أخرى كالاقتصاد والتاريخ.
وبعد هذا التقديم المختزل، فهاك فاسمع العجب: أساتذتنا من دكاترة القانون السعوديين المؤتمنين على شهادتهم في معادلة الشهادات الأجنبية، أصروا على تقييم دكتوراه فقه القانون الـ«جي دي» بأنها معادلة لدرجة البكالوريس. وهذه المعادلة أعتقد أنها خاطئة وظالمة ولا تخدم الصالح الوطني. فهي خاطئة للأسباب التالية:
أولاً: أن دكتوراه فقه القانون - كما وضحت سابقاً - تشترط لزاماً أن يكون المتقدم للدراسة حاصلاً على درجة البكالوريس، كشأن كل الدراسات العليا، فهي مرحلة بعد البكالوريس، فهي من الدراسات العليا.
ثانياً: وكون أن البكالوريس ليس من تخصص القانون نفسه، فهذا لا يعني شيئاً. فكل برامج الدكتوراه والماجستير بمختلف فروعها في أمريكا، وعلى رأسها دكتوراه الفلسفة في القانون أو علومه (فلا يوجد بكالوريس في القانون أصلاً في أمريكا) لا تشترط أن يكون البكالوريس من التخصص نفسه، بل ويفضلون في الدكتوراة عادة أن يكون البكالوريس مختلفاً. وأنا أحمل بكالوريوس عسكرياً ولم تعترض أي جامعة قدمت عليها على اختلاف التخصص في البكالوريس قط، وحصلت على دكتوراه في الاقتصاد.
ثالثاً: إن ماجستير القانون الذي تعادله لجنة المعادلة بدرجة ماجستير، مدته سنة واحدة ومنهجه حول 22 وحدة دراسية، وبالمقابل فإن دكتوراه فقه القانون الـ«جي دي» تعادله اللجنة ببكالوريوس بينما مدته ثلاث سنوات ومنهجه حول 90 وحدة دراسية.
رابعاً: أن هيئة الاعتماد لبرامج القانون (ABA) تنص نصاً صريحاً في خطابها الأساسي بأن دكتوراه فقه القانون مكافئة لدكتوراه فلسفة القانون. (وأعتقد - ولست جازماً - أن لجنة التقييم ووزارة التعليم لا تعتمد أي جامعة غير معتمدة من هذه الهيئة. ولم أجزم بهذا، لأنه قد تكون لجنة المعادلات تدرك بأن الهيئة ABA لا تكترث ولا تعتمد أي برنامج غير الـ«جي دي» - الذي يعادلوه بالبكالوريس عندنا -، ولكن الجامعات هناك تتسلق على اعتماد الـ«جي دي» لتكتسب سمعة الاعتماد في القانون. فإن كانت لجنة المعادلات يدركون ذلك أو لا يدركون ففي الحالين، هذه حجة أخرى عليهم).
خامساً: وبررت ABA (هيئة اعتماد برنامج القانون والترخيص لممارسته) سبب تكافؤ كلا الشهادتين بمستوى الدكتوراه: بأن كلاهما من الدراسات العليا التي تأتي بعد البكالوريس. فإذا تقرر هذا فالمناهج متكافئة. فبرنامج دكتوراه فقه القانون الـ«جي دي» يتطلب 90 وحدة دراسية مكثفة، بينما برنامج دكتوراه القانون غيره يتطلب 60 وحدة دراسية فقط و30 وحدة لكتابة رسالة الدكتوراه. فالبرنامجان متكافئان، ولهذا لا يجوز التفريق على أساسه في العلاوات ونحوه.
سادساً: إن مكتب الإحصاء الفدرالي الأمريكي يضع الـ«جي دي» في الترتيب في مرتبة أعلى من الماجستير تحت مسمى دكتوراه مهنية (لا مع البكالوريس).
سابعاً: إن حملة الـ«جي دي»، أي دكتوراه فقه القانون، هم غالب أساتذة القانون في الجامعات الأمريكية التي نرسل أبناءنا للدراسة فيها، والذين هم أساتذة دكاترة القانون عندنا وأعضاء لجنة معادلات الشهادات منهم جعلوا من شهادت أساتذتهم مكافئة للبكالوريس. فلم لا تلتزم الوزارة بهذا المنطق فتجعل حملة البكالوريس أساتذة في الجامعات عندنا؟