تعرفت على كلمة «بعض» عندما بدأت الكتابة الصحافية منذ أكثر من خمس سنوات تقريبا، فمن خلال كتاباتي الصحفية في عدد من الصحف، كان دائما ما يراجعني الرقيب في أوصاف التعميم التي أطلقها على فئة أو نحوها، ويطالبني بإضافة كلمة «بعض» قبل وصف التعميم. وإني وإن كنت لست متخصصا في علوم اللغة ولم أعش زمان فصاحة العرب، إلا أن هناك منطقا عقليا عاما بين البشر يفهمون به مقاصد الكلام، حتى ولو كان بغير لسانهم، فكيف إن كان بلسان قومه. لذا، فلم أتصور قط أن آخذ هذا البروتوكول الصحفي السعودي على محمل غير محمل السياسة الوقائية المتحفظة، لا على محمل التسليم بالبلاغة الأدبية أو الصحة التعبيرية. فإضافة «بعض» لتخصيص عموم واسع -لا يفهم أحد أن المقصود هو جميع أفراده إلا البليد والأبله - هو ركاكة أدبية وضعف في البلاغة التعبيرية، وشاهد لضعف عقل الكاتب أو المتحدث، إلا إن كان المقصود هو التقليل ونفي التغليب. ولكن هو تحفظ قد يكون له محله إن كان من باب سياسة دفع المترصد وبيزنطي الجدلية وغوغاء من يستخفونه من الشارع.
وقد شهد تويتر بأن هناك الكثير ممن يتذاكى أو يستحمق فتراه يطالبني بإضافة «بعض» في كثير من الأمور الذي يدرك الأبله البليد بأن المقصود هو الصفة الغالبة لا كل أفراد العموم. وأنا أعتقد أن هذه البلاهة التي يتذاكى بها هؤلاء هو نتيجة هذه الثقافة السعودية المتحفظة التي أبرزتها الصحافة عندنا. والمشكلة ليس في إضافة «بعض» وسوء البلاغة الأدبية وسطاحة فكر إيرادها، بل المشكلة أن هذا وغيره من العجائب، يسند بعضها بعضا، وتنتج آثاراً تضاعفية تؤثر على الفهم العام، فتسطحه وتجعله بليد المنطق غليظ الإدراك.
فلا يكاد يُتخيل في هذه الدنيا - خارج المقادير الكونية- أي من ألفاظ العموم تدخل جميع أفرادها طالما كانت مجموعة حية وكبيرة عرفا. ولذا فكل ما ورد في القرآن من عموم دنيوي -خارج عن الأمور الكونية- لا تراه يُقصد به جميع أفراده، حتى وإن جاء مؤكداً أحياناً. فمثلا قوله تعالى {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} فالمقصود غالب من كان المسلمون في حرب معهم، وليس الروم والفرس وكل قبائل العرب وكل الناس. وكذلك قوله {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى} فهل كل نصراني أقرب مودة للمسلمين من كل مشرك أو يهودي؟ وهل يفهم هذا إلا أحمق؟ بل إن النصارى هم من حارب المسلمين أربعة عشر قرنا، وليس اليهود والمشركون. وحتى فلسطين، فالنصارى هم من كادوا لنا وسلموها لليهود. وهل يجب علي أنا هنا أن أضيف كلمة «بعض» أو كلمة «غالب» قبل أن أطلق التعميم على النصارى في وصفي لهم أنهم هم من حارب المسلمين؟ أليس هذا ركاكة تعبيرية وسطاحة فكرية؟ اللهم أن يكون ترصدا بيزنطيا كما فعل الراهب النصراني في مؤتمر فيينا عندما اتهمني بسب النصارى والمجوس.
ومن السنة، في هذا الباب، كذلك كثير: كقوله عليه السلام «خيركم قرني ثم الذين يلونهم» وقولهم الرجال أفضل من النساء، فالمقصود عموم الجنس لا الخصوص. فعائشة رضي الله عنها خير دينا وعقلا من غالب الصحابة فضلا عن أن تكون دون الرجال كلهم. وكثير من المبتعثات السعوديات خير وأذكى وأشرف تمثيلا لبلادنا، من كثير من المبتعثين السعوديين. ونحن عندما نقول اليابانيون أذكياء، فهل نقصد كل ياباني؟ وعندما يقول الغرب إن السعوديين أغنياء، وهكذا. فهذه أوصاف تعميمية المقصود بها دلالة الغالب على صفة غلبت على توصيف المجتمع بها ولو أن من سببها قلة منهم، كوصف العرب بأنها كانت تأد بناتها، والنادر من العرب من كان يفعل هذا. وكذلك التعميم بسبب نتيجة نتجت عن المجتمع ولو كان غالب الأفراد لا علاقة لهم بها كقولنا « الأمريكان إبداعيون» فهم 300 مليون والذين ابدعوا قد لا يصلون المائة ألف. فاوصاف التعميم لا تدخل جميع أفراد الموصوف- بداهة- إلا إذا أُكد بأكثر من مؤكد واحد، وحتى هذا يحتاج إلى شواهد لإثباتة الشمولية في العموم. فقد قال تعالى {وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً}، وقال {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ}، فهل يفهم معنى العموم إلا خارجي، الإسلام بريء منه.
كلمة « بعض» تدل على التقليل وهي ركاكة أدبية وسطاحة فكرية فرضتها تحفظ الصحافة السعودية، وها هي قد أصبحت أصلا يتذاكى به كثير رغم أنها لا تحتاج لفهم تحليلي عميق، وهذا شاهد آخر على السطاحة الفكرية وعدم التأمل في الأمور عند «بعض» السعوديين.